ما هو اتجاه التعامل التركي المستقبلي في التعامل مع قضية الأكراد؟ على الأقل خلال الخمس سنوات قادمة، وهي مدة سيطرة حزب العدالة ورئيسه أردوغان على الحكم في تركيا بعد نجاحهم في الحصول على دعم غالبية الشعب التركي؟
كانت قضية الأكراد من بين القضايا القليلة التي تحدث عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب النصر، الذي ألقاه وهو يطل على عشرات الآلاف من أنصاره من خلال شرفة القصر الجمهوري في أنقرة مساء الأحد الماضي، عقب الإعلان عن إعادة انتخابه كرئيس للجمهورية التركية لفترة خمس سنوات قادمة.
وقال أردوغان: إطلاق سراح صلاح الدين دمرداش، الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد غير ممكن في ظل حكمه.
فهل هذه التصريحات تدل على استمرار سياسات تركيا الأخيرة تجاه القضية الكردية؟
أم أن هذه التصريحات هي رد فعلي وقتي ولحظي، بعد مساندة اليسار الكردي لمرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار أغلو؟
ما هو اتجاه التعامل التركي المستقبلي في التعامل مع قضية الأكراد؟ على الأقل خلال الخمس سنوات قادمة، وهي مدة سيطرة حزب العدالة ورئيسه أردوغان على الحكم في تركيا بعد نجاحهم في الحصول على دعم غالبية الشعب التركي؟
للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا معرفة ديمغرافية الوجود الكردي على الأراضي التركية، ومن ثم تتبع التاريخ العسكري والسياسي الكردي، وتعامل الحكومات التركية المختلفة معهم وصولا الى تعامل حكومة حزب العدالة معهم.
الأكراد بين الجغرافيا والتاريخ:
عاش الأكراد منذ القدم في سهول ما بين النهرين، وفي المناطق الجبلية المرتفعة الموجودة الآن في جنوب شرقي تركيا، وشمال شرقي سوريا، وشمالي العراق، وشمال غربي إيران، وجنوب غربي أرمينيا.
وتتضارب الإحصائيات في بيان عددهم إجمالاً، ولكن تلك الإحصائيات تحصر عددهم ما بين عشرين وثلاثين مليونًا، وهم بذلك يُعَّدون رابع أكبر مجموعة عرقية في المنطقة.
ويعترف الكاتب والخبير السياسي الكردي هوشنك أوسي أنه لا يوجد إحصاء دقيق لعدد الكرد، بشكل علمي ومحايد، وبحسب الموقع الالكتروني لمشروع جوشوا للمجموعات الإثنيّة والتي لا أعرف من أين استقى تلك الدقة في تعداد الأكراد، حيث يقول إن عدد الأكراد يبلغ 27,380,000 نسمة، 56% في تركيا، و%16 في إيران، و%15 في العراق، و6% في سورية0
وبحسب إحصاء أجرته وزارة الداخلية التركية سنة 2011، بلغ عدد سكان تركيا ما يقرب من 75 مليون، منهم 15 مليون كردي، ما نسبته 20% من عدد سكان تركيا، و56% من إجمالي عدد الكرد في العالم. وبعض الأكراد يؤكدون أنهم يشكلون الاكثرية في 21 محافظة من المحافظات التركية التسعين.
في البداية استمال أتاتورك الأكراد بجانبه باسم الدين والإسلام وذلك عند التنازع بين حكومتي إستانبول العثمانية وحكومة أنقرة بزعامة أتاتورك، حتى إن ممثليهم في البرلمان التركي الذي عقد أثناء الاحتلال الأوروبي رفضوا الانفصال عن تركيا
والإسلام المستمد من مناهج أهل السنة والجماعة هو ما يعتنقه الغالبية العظمى من الأكراد، مع العلم أن فرقة من الأكراد قد تبنت المذهب النصيري (العلوي)، وتقول بعض الإحصائيات أن العلويين الأكراد يشكلون ما يقرب 35% أو أكثر من مجموع العلويين في تركيا، والذين تبلغ نسبتهم وفق مصادر غير موثقة ما يقدر ب 10% من الأتراك، علمًا بأن الإحصائيات التركية الرسمية لا تصنف الأتراك على أساس ديني أو مذهبي.
لقد دخل الكرد الإسلام منذ بداية عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتح العراق وبلاد فارس حيث سكن الأكراد في هذه المناطق، وظهر منهم عدد من التابعين مثل ميمون بن جابان، وكان أحد حملة الحديث النبوي، وجاء اسمه في عدد من مصنفات الحديث مثل أسد الغابة لابن الأثير، وتجريد أسماء الصحابة للحافظ الذهبي، وقد انتقل ميمون من بلاد الأكراد إلى المدينة المنورة ليتعلم الحديث النبوي والفقه على كبار الصحابة والتابعين في نهاية القرن الأول من الهجرة.
وطبع الأكراد بصمتهم في التاريخ الإسلامي، وأبلوا بلاء حسنا في الجهاد ضد أعداء الإسلام.
وكانت علاقتهم بالأتراك علاقات قوية ووشائجها متينة، وقد أثنى كثير من مؤرخي الأتراك على الدور الذي قام به الأكراد في موقعة ملاذ كرد تلك المعركة المفصلية في التاريخ الإسلامي، مثل المؤرخ التركي عثمان طوران في كتابه تاريخ السلاجقة وحضارتهم، حيث ذكر أن جيش السلطان السلجوقي ألب أرسلان كان يتكون من خمسة عشر ألف مقاتل، أكثر من نصفهم كان من متطوعة الأكراد.
أما علاقتهم بالدولة التركية الزنكية فقد توسعت، عندما اعتمد عليهم عماد الدين زنكي حين جعل قوام جيشه من الكرد واستقطب قوادهم مثل نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، اللذان ساندا ابنه نور الدين محمود، الذي قرَّب بدوره ابن أخي شيركوه صلاح الدين الأيوبي والذي يمثل ذروة الصعود الكردي في التاريخ الإسلامي وهو الذي حرر القدس واستردها من أيدي الصليبيين.
وفي عصر العثمانيين، ونظرًا للخدمات الكبيرة التي قدمها الأكراد لهم أثناء الصراع العثماني الصفوي، فقد سمح العثمانيين للأكراد أن يحكموا أنفسهم ذاتيًا.
وانتهى الصراع بين العثمانيين والصفويين في القرن التاسع عشر على تقسيم أقاليم الأكراد بينهما، جزء شرقي تسيطر عليه إيران، وآخر غربي وشمالي يسيطر عليه العثمانيون.
المشكلة الكردية:
يكاد يجمع المؤرخون أنه لا أحد كان يسمع عن مشكلة كردية في تركيا أو غيرها طيلة الحكم العثماني، ولكن تبدأ مشكلة الأكراد منذ توقيع اتفاقيّة سايكس – بيكو سنة 1916، عندما بدأت فرنسا وانجلترا في تقسيم أملاك الدولة العثمانية بينهما.
حيث لفت الانتباه حينها تصريح جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا، الذي قال فيه إن إدارة العثمانيين سيئة، ومظالمهم متنوّعة من عصور عديدة، وهم عديمو الكفاءة والأهلية في إدارة العناصر غير التركية، فيجب ألا نترك أمة ما دون النظر إلى طموحها في إشارة إلى الأقليات العرقية والدينية والمذهبية في المنطقة.
لقد وصف عالم الجغرافيا السياسية روبرت كابلان في كتابه انتقام الجغرافيا، ما قامت به سايكس بيكو أنها جعلت الحدود السياسية لتلك الدول المخترعة من الجسد العثماني أشبه برسوم أطفال، فالتوزيع السكاني المتداخل في واحدة من أعرق مناطق العالم استيطانا، أوجد تغييراً جذرياً في جيوسياسية المنطقة جعلها للوقت الراهن مرتعاً خصباً لمختلف أنواع النزاعات.
وبدأ التنفيذ على الأرض، فبعد هزيمة العثمانيين أُرغموا على توقيع معاهدة سيفر والتي نصت على منح المناطق الكردية الحكم الذاتي، واحتمال حصول كردستان على الاستقلال، والسماح لولاية الموصل بالانضمام إلى كردستان.
أدت سياسة التتريك العلمانية المتشددة، إلى ظهور التجمعات السياسية والعسكرية الكردية ولكن بوجه يجمع بين العلمانية والأقلية الكردية النصيرية، والتي أثمرت حزب العمال الكردستاني، ويُعرف اختصارا بـ(PKK)
في البداية استمال أتاتورك الأكراد بجانبه باسم الدين والإسلام وذلك عند التنازع بين حكومتي إستانبول العثمانية وحكومة أنقرة بزعامة أتاتورك، حتى إن ممثليهم في البرلمان التركي الذي عقد أثناء الاحتلال الأوروبي رفضوا الانفصال عن تركيا.
لذلك تم التوقيع على معاهدة لوزان عام ١٩٢٣ ولم يتم فيها ذكر الأكراد.
وبعد إعلان الجمهورية التركية وإسقاط الخلافة وظهر الوجه العلماني القومي المتعصب لأتاتورك، والذي يقوم على تفوق العنصر التركي وقطع الصلة بالإسلام وفرض ذلك النموذج قسريًا على الناس ليعتنقوه، بدأت المشكلة الكردية في الظهور.
أحس الأكراد بالغدر، واندلعت انتفاضة الشيخ سعيد بيران الكردي سنة 1925، وساندها الشركس والعرب في مناطق جنوب شرق تركيا.
وانتهت هذه الانتفاضة بالسحق واعتقال الشيخ سعيد وإعدامه مع رفاقه.
أي أن أولى انتفاضات الأكراد كانت بسبب إلغاء الخلافة والتي تمثل الوحدة الجامعة بين القوميات في تركيا.
وراح في المجازر التي ارتكبت في سحق الانتفاضات الكردية عشرات الآلاف من الكرد، ومئات الألوف من المشردين والمهجرين قسرًا.
وأدت تلك الحملة التي مارسها أتاتورك وخلفاؤه أي إلزام انتماء الأقليات العرقية المختلفة في تركيا باللغة والثقافة التركية، إلى منع الأقليات العرقية في تركيا ومنهم الأكراد من ممارسة لغاتهم كما تم منع الأكراد من تشكيل أحزاب سياسية وكان مجرد التحدث باللغة الكردية عملاً جنائيًا حتى عام 1991.
كما أدت سياسة التتريك العلمانية المتشددة، إلى ظهور التجمعات السياسية والعسكرية الكردية ولكن بوجه يجمع بين العلمانية والأقلية الكردية النصيرية، والتي أثمرت حزب العمال الكردستاني، ويُعرف اختصارا بـ(PKK)، وقد تأسس عام 1979 وهو منبثق من منظمة تركية شيوعية كانت تعمل في السبعينيات باسم منظمة الشباب الثوري. وقد أسس الحزب عبد الله أوجلان النصيري.
وتقول أدبيات الحزب، أنه يهدف إلى إنشاء دولة كردية ديمقراطية مستقلة في الشرق الأوسط، وارتكزت استراتيجيته على استعمال القوة وتصعيدها في مواجهة قوة الدولة التركية المتمثلة في الجيش التركي، واستمر القتال عقودا طويلة وأسفر عن مقتل آلاف القتلى خاصة من الأكراد، وتهدمت مئات القرى.
ولكن بعد القبض على زعيمه عبد الله أوجلان عام 1999 أوقف الحزب أنشطته المسلحة بدعوة من أوجلان الذي أعلن عن مبادرة سلام تتضمن الحوار مع أنقرة، وغير اسمه إلى مؤتمر كردستان الحرية والديمقراطية، ثم عاد عام 2005 إلى النشاطات المسلحة متخذا من مناطق بشمال العراق مأوى له.
حزب العدالة والأكراد:
ولكن بوصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم في ديسمبر 2002، بدأ العمل باستراتيجية صفر مشاكل سواء مع جيران تركيا من الدول المجاورة أو مع المكونات المتصارعة في الداخل التركي فجاءت استراتيجيته مع القضية التركية على النحو التالي:
فتح المجال العام للأكراد ما لم يفعل أحد قبله من الاعتراف بلغتهم وثقافتهم، بل إن الحزب فتح لهم أبوابه لينضموا إلى صفوفه، حتى أن علي يلدرم رئيس الوزراء التركي الأسبق في عهد الرئيس أردوغان ونائب رئيس حزب العدالة كان كرديا.
السماح للأكراد بالعمل السياسي، فتم إنشاء حزب الشعوب الديموقراطية وهو الوجه السياسي لحزب العمال المسلح، والذي دخل الانتخابات عدة مرات وحاز على نسبة عالية من أصوات الأكراد.
الشروع في مفاوضات مع قيادات حزب العمال بزعامة أوجلان، لتبدأ أطول جولة مفاوضات سرية بين الكردستاني وأنقرة، والتي احتضنتها العاصمة النرويجية أوسلو، من سنة 2008 وحتى سنة .2011، والتي أسفرت عن دعوة أوجلان أعضاء حزبه لإلقاء السلاح.
ولكن مع منتصف عام 2015، توقفت المفاوضات بشكل مفاجئ، إثر تفجير قام به تنظيم داعش لتجمع من الأكراد، واتهم حزب العمال الجيش التركي بأنه يوجه داعش، فاندلعت الحرب مجددًا بين الطرفين.
وترافق تغير استراتيجية حزب العدالة مع الأكراد، مع تراجع الحزب شعبيًا في الانتخابات، فبات يحتاج إلى التحالف مع القوميين والذين يريدون إنهاء أي تفاهم مع الأكراد والعودة لاستراتيجية التصادم.
الآن بعد فوز تحالف حزب العدالة في الانتخابات الحالية، برز متغيرين متناقضين يحددان مستقبل علاقة الحكومة التركية مع الأكراد:
الأول هو ازدياد الوجه القومي للنظام التركي، حيث يعتمد بقاءه في الحكم على التحالف مع حزب الحركة القومية، كما أن انحياز المرشح الثالث القومي المتطرف سنان أوغان إلى أردوغان في الانتخابات يعطي زخمًا إضافيًا لتأثير القوميين على سياسة العدالة وهي التشدد مع الأكراد.
أما المحدد الثاني المتناقض مع الأول، فهو وجود حزب إسلامي كردي وهو حزب الهدى، داخل تحالف حزب العدالة.
وفي الانتخابات التركية البرلمانية عام 2023، حصل حزب اليسار الأخضر، الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، على 8.8% من الأصوات، بخسارة 2.9% عن انتخابات 2018، التي حصل فيها الحزب على نسبة 11.7%، وهو ما حلله مراقبون بحصول حزب الهدى على جزء كبير من هذه الأصوات بعد تحالفه مع حزب العدالة والتنمية الحاكم ودخوله البرلمان على قوائمه وحصل على 4 مقاعد في البرلمان.
هذه العوامل المتناقضة، سواء تأثير القوميين الأتراك المعادي للأكراد، أو تأثير الإسلاميين الأكراد، يجعل (عكس ما يتصور البعض) الخيارات متسعة أمام أردوغان السياسي المحنك والخبير في الاستفادة من التناقضات السياسية وتجييرها لصالح أهداف حزبه، وهي إعادة دمج الأكراد في السياسة التركية بعد استبعاد من يتم توظيفهم لصالح أجندات خارجية.
____________________________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي
Source link