أبواب مفتحة – طريق الإسلام

رمضان فرصة عظيمة للعابدين لاستغلال نهاره بالصيام والعلم والتعليم، وليله بالإطعام والصلاة والدعاء، ومن كان يومه كأمسه فهو مغبون…

رمضان فرصة عظيمة للعابدين لاستغلال نهاره بالصيام والعلم والتعليم، وليله بالإطعام والصلاة والدعاء، ومن كان يومه كأمسه فهو مغبون، وكذا من كان رمضان عنده كشعبان فهو مغبون، فينبغي أن يستغل المسلم هذا الشهر المبارك للعمل الصالح، وليكون فيه أفضل مما كان قبله، وليكون بعده أفضلَ مما كان فيه، وهذه أبوابٌ للخير مفتَّحة، فليَلِجْها مريدُ الخير في أيام الخير.

 

1- الدعاء:

وقد كان مجيء قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] بين آيات الصيام دليلًا واضحًا على أهمية هذه العبادة في هذا الشهر.

 

وهو من أعظم العبادات الدالة على افتقار العبد إلى ربه وحاجته إليه في كل حال، وقد سمَّاه الله تعالى عبادة في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

 

وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبادة، فقال: «الدعاء هو العبادة» [1]، وكأنه قصرها عليه، والسر في ذلك أنه العلامة الظاهرة على تعلُّق القلوب بخالقها وتوجُّهها إليه، إن لم يكن رمضان وقت الدعاء المستجاب، ففي أي شهر يكون الدعاء؟ وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أبخل الناس من بَخِلَ بالسلام، وأعجز الناس مَن عجز عن الدعاء» [2]، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» [3]، وذلك لدلالته على قدرة الله وعجز الداعي.

 

وعلى الصائم أن يترصَّد لدعائه الأوقات الشريفة التي هي أدعى للقبول والإجابة، كثلث الليل الآخر، وهو وقت التنزُّل الإلهي، وفي السجود، وعند الأذان، وعند الإقامة، وبينهما، وآخر ساعةٍ يوم الجمعة.

 

وعلى الصائم أن يُكثر المسألة، وألا يستعظم شيئًا، فكلُّ عظيمٍ فالله أعظمُ، وكلُّ كبيرٍ فالله أكبر، ففي الحديث: إذا سأل أحدكم فليُكثر فإنما يسأل ربه[4].

 

قال المُناوي: إذا تمنَّى أحدكم خيرًا من خير الدارين، فليكثر الأماني، فإنما يسأل ربه الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيُعْظم الرغبة ويوسِّع المسألة، ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل، فإنه إن لم ييسِّره لا يتيسر، فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر، فإن خزائن الجود سحَّاءُ الليلَ والنهار….[5]، فإن الله تعالى قال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].

 

وعلى الصائم الذي يأمل إجابة دعائه أن يكون مأكله ومشربه حلالًا، لا شبهة فيه، فلا يتناول شيئًا اكتسبه بطريق غير مشروع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن الرجل يمد يده إلى ربه، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك[6].

 

فإن العبد ليَقذف باللقمة الحرام في جوفه، ما يُتقبَّل منه بسببها عملٌ، ولا يُرفع له بسببها دعاءٌ.

 

فالمال الحرام، والمكاسب المشبوهة، من أعظم الموانع التي تحول دون قبول الدعاء، بل دون قبول العمل، ومهما أنفق المرء من المال المشبوه، أو تصدق، فلن يقبل منه شيء، فالنفقة الحلال وإن كانت يسيرة يبارك الله تعالى فيها، فإن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا.

 

2- إحياء روح القرآن (التدبر):

فليس شيءٌ أنفعَ للقلب في معاشه ومعاده، وأقربَ إلى نجاته – من ‌تدبر ‌القرآن وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقهما وأسبابهما، وغاياتهما، ومآل أهلهما.

 

{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [ص:29]، فهذا الكتاب فيه خيرٌ كثيرٌ، وعِلْم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وعلمٌ من جهالة، ودواءٌ من كل داء، ونور يُستضاء به في الظلمات، وكنوزٌ عظيمة، وكل حكم يحتاج إليه المكلَّفون، وهذا كله لا يُمكن استخراجه، إلا إذا تُدُبِّرت آياتُه، وتُؤمِّل في معانيه.

 

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فإنهم لو تَدَبَّروه لدلَّهم على كل خير ولحذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، أم قد أُغْلِقَ على ما فيها من الشر، وأقفلت فلا يدخلها خير أبدًا!

 

عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى يصلي، فقلت: يُصلي بها في ركعة، فمضَى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآية تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ…[7].

 

وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقرأ سورة البقرة، لا يَمُرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوَّذ…[8].

 

هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن، فهل نقتدي به في قراءته، أم لنا طريقةٌ غيرُ طريقته؟ قال عبدالله بْنُ مَسْعُودٍ: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَركُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ ‌أَحَدِكُمْ ‌آخِرَ ‌السُّورَةِ[9].

 

وقال مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِي: ‌لَأَنْ ‌أَقْرَأَ: الْقَارِعَةَ، وإِذَا زُلْزِلَتْ، فِي لَيْلَةٍ، أُرَدِّدُهَا وَأَتَفَكَّرُ فِيهِمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ أَهُذُّ الْقُرْآنَ[10].

 

قال ابن القيم رحمه الله: إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته، وسماعه، وألقِ سمعك، واحْضُر حضور من يخاطبه به من تكلم به منه إليه، فتمام التأثير موقوف على: مؤثر مقتضٍ، ومحلٍّ قابلٍ، وشرطٍ لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37][11].

 

3- العطاء والبذل:

الجود من أعظم مكارم الأخلاق، ورمضان شهر الجود، ومن سابغ جود الله وعظيم كرمه: تفضُّلُه في هذا الشهر بعِتق عباده من النيران، وذلك كل ليلة؛ كما في حديث أبي أُمامة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لله عند كل فطرٍ عتقاء» [12].

 

وكان رسولنا الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان لا يُسأل عن شيء إلى أعطاه.

 

وكان جوده يجمع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولم يزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم، وتَقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق[13]، ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافًا كثيرة، فهلا اقتدينا بنبينا صلى الله عليه وسلم.

 

واعلم أن من معالم الجود في رمضان: إطعام الطعام؛ قال الله تعالى: وَأَسِيرًا إِنَّمَا، وعن زيد بن خالد الجهني قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره غير أنه لا يُنقص من أجر الصائم شيء» [14].

 

وقد كان السلف الصالح يَحرِصون على إطعام الطعام، ويقدِّمونه على كثير من العبادات، كما قال بعضهم: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعامًا يشتهونه، أحبُّ إليَّ من أن أعتِق عشرة من ولد إسماعيل[15].

 

4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و‌‌التعاون على البر والتقوى:

ما أجمل رمضان وهو يقوِّي صلة المؤمن بربِّه، ويرقق قلوب المسلمين، ويقوِّي روابط الأخُوة بين المؤمنين، ويؤلف بينها، ويزيد أواصر المودة والمحبة، فترى تعاطفهم وتراحمهم فيما بينهم بصور عديدة، وأشكال فريدة.

 

ومن ذلك التناصح والتذكير الذي يقوم به المسلمون فيما بينهم، ويعين كل واحد منهم أخاه على نفسه، فتراه يوجهه حين يراه على مخالفة، ويدعوه بالأسلوب الطيب، والطريقة اللطيفة، عملًا بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].

 

كما يَحُث إخوانه على فعل الخيرات، وعمل الصالحات، والاستزادة منها في هذا الشهر الكريم، ابتغاءً للأجر والثواب، فالمؤمن يعي أن فعله هذا ينال به مثلَ ثوابِ أخيه الذي دعاه وذكره، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا» [16]، ويدخل في ذلك كله دعوة من تعرف إلى حضور صلاة الجماعة، والمواظبة على صلاة التراويح، والتصدق على المساكين المحتاجين، وأعمال المعروف والبر، إلى قراءة القرآن، والإكثار من ذكر الله تعالى، وسائر خصال الخير التي تتأكد في مثل هذا الشهر الكريم.

 

كذلك فإن الصائم قد يَعرِض له في نهاره ما يُنسيه أنه متلبس بعبادة الصيام، فيأكل أو يشرب نسيانًا، ففي مثل هذه الحالة يجب عليك أن تذكِّر أخاك بأنه صائم، فإن المؤمن مرآة أخيه، وتبيِّن له ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليُتم صومه، فإما أطعمه الله وسقاه» [17].

 

وهكذا فإن المؤمن في رمضان ينبغي أن يكون داعية يوجه إخوانه، ويذكرهم ويرغبهم في أعمال الخير والبر، ويقوي صلتهم بخالقهم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

 

5. العمرة في رمضان:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لامرأةٍ من الأنصار: ما منعك أن تحُجِّي معنا؟ قالت: كان لنا ناضح فركِبه أبو فلان وابنه – لزوجها وابنها – وترك ناضحًا[18] ننضح عليه، قال: فإذا كان رمضان اعتمري فيه؛ فإن عمرة في رمضان حجةً[19].

وفَّقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى


[1] أخرجه أحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني.

[2] رواه أبو يعلي في مسنده عن أبي هريرة، ورواه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

[3] رواه أحمد والبخاري في الأدب والترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع

[4] صحيح ابن حبان.

[5] فيض القدير.

[6] رواه مسلم.

[7] صحيح مسلم.

[8] صحيح سنن النسائي.

[9] أخلاق أهل القرآن.

[10] الزهد لوكيع.

[11] مفتاح دار السعادة.

[12] صحيح الترغيب والترهيب.

[13] رواه البخاري.

[14] رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني.

[15] تفسير ابن رجب الحنبلي.

[16] رواه مسلم.

[17] متفق عليه.

[18] والناضح: بعير يسقون عليه.

[19] رواه البخاري ومسلم.

______________________________________________________________
الكاتب: د. شريف فوزي سلطان


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

وما توفيقي إلا بالله – طريق الإسلام

ما أعظم أن يسير المرء في طريق الخير، ويستقيم عليه، وترعاه عناية الله في كل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *