منذ حوالي ساعة
ندعوك دعاءَ مَن اشتدَّت فاقته، وضعفت قوتُه، وقلَّت حيلته، دعاء الغرباء المضطرين، الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت، يا أرحم الراحمين! اكشِف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتورٍ وذلٍّ وهوان..
ما من أحدٍ في هذه الحياة إلا وهو يعاني من مشكلة أو قضية، أو حاجة أو همٌّ يؤرِّق حياته ويقلق راحته، أو مرض يرجو الشفاء منه، أو دَين يتمنَّى قضاءه، أو فقرٌ يأمُل بَعده الغنى، فإلى من يلجأ وممن يطلب العون وعلى مَن يعتمد؟ فكان من رحمة الله بعبادة أن دلَّهم عليه، وأمَرَهم باللجوء إليه؛ يقول سبحانه وتعالى بعد أن ذكر آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وما ذلك إلا لبيان أهمية الدعاء والتضرُّع بين يديه سبحانه وتعالى، وفي رمضان يكون الدعاء أعظمَ ثمرة وأعظم أجرًا، ولِما لا يكون كذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ( «للصائم عند فطره دعوة لا تُرد» )؛ (صحيح ابن ماجه) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصُرنَّك ولو بعد حين» )؛ (حسن مسند الإمَامُ أَحْمَدُ بتحقيق الأرنؤوط، (12/ 480-481).
وَإِذَا لم يَكُنْ رَمَضَانُ هُوَ شَهرَ الدُّعَاءِ وَفُرصَةَ الابتِهَالِ وَالنِّدَاءِ، فَفِي أَيِّ شَهرٍ يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَإِذَا لم يَستَغِلَّ العَبدُ مَوسِمَ الرَّحمَةِ لِيَرفَعَ إِلى مَولاهُ حَاجَاتِهِ وَرَغَبَاتِهِ، فَمَتى يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَإِذَا كَانَ اللهُ حَيِيًّا كَرِيمًا يَستَحِيي إِذَا رَفَعَ العبد إِلَيهِ يَدَيهِ أَن يَرُدَّهُمَا صِفرًا فَكَيفَ بِمَن أظمأ نهاره صائمًا لله وأسهر ليله طَاعَةً لِرَبِّهِ ولسانه رطب بذكر الله وتلاوة القرآن، وَقَدَمَاهُ مَصفُوفَتَانِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا؟! كَيفَ بِهِ إِذَا رَفَعَ كَفَّيهِ وَنَاجَى رَبَّهُ عَلَى تِلكَ الحَالِ؟! وفي الحديث القدسي: ( «يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أَهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي إنكم تُخطؤون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم» )؛ (رواه مسلم).
بل إن الله سبحانه وتعالى جعل من يأبى ذلك من أهل الكبر والاستكبار في الأرض، وجعل مصيرهم النار وبئس القرار؛ قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
عباد الله، لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أنبيائه بعبادة الدعاء، فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وبالدعاء وصف الله عباده المؤمنين وجعلها أعظم صفة فيهم، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15 – 17].
إنه الدعاء سلاح المؤمن، به يكون صلاح أمره في دينه ودنياه وآخرته، فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلِح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ» “؛ ( مسلم).
وبالدعاء تذهب الأمراض، وتُشفى الأجساد، فهذا نبي الله أيوب عليه السلام، فبعد البلاء والصبر دعاء ربه، فقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].
وبالدعاء تُقضى الحاجات وتتحقق الرغبات، فالله سبحانه يحرِّك الأسباب لتجري بأمره استجابةً لعبدٍ من عباده لجأَ إليه وطلب منه وتوكَّل عليه؛ عن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدًا فقال لي أهلي: قد ترى ما بنا من فاقة وما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، قال: فتوضَّأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله تعالى عليهم – فتوضَّأت وكان لي صديقٌ لا يزال يقسم عليَّ بالله إذا ألَمَّت بي حاجة أن أُعلمَه بها ولا أكتُمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررتُ بالمسجد، فذكرتُ ما رُوي عن أبي جعفر قال: من عرضتْ له حاجة إلى مخلوق، فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال: فدخلت المسجد فصليتُ ركعتين، فلما كنتُ في التشهد، أفرغ عليَّ النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق، أتدل العباد على الله ثم تنساه؟! قال: فاستيقظتُ وعلمتُ أن ذلك تنبيهٌ نبَّهني به ربي، فلم أخرُج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي، ودعوت الله وتوكلت عليه، وانصرفت إلى المنزل، فوجدت مال وطعام، فسألت من جاء بهذا، فقالوا: رجل يقول أنه صديق لك منذ زمن، وقد رد ما كان عليه من دَين لك، قال شقيق: والله ما أعلم أن صديقًا لي أستدان مني مالًا ولم يردَّه، ولكني علمت أن الله هو من ساق ذلك الرجل بهذا الخير، إن ربي سميع الدعاء، فلا تعجب فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
والدعاء سببٌ مُهم في تحقيق النصر والتمكين والثبات للأمم والأفراد والشعوب؛ قال تعالى عن طالوت وجنوده لَما برزوا لجالوت وجنوده، ﴿ {قالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، فماذا كانت النتيجة، {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمَ الدعاء، كثيرَ الابتهال والتضرُّع لمولاه سبحانه وتعالى، حتى كُتب له النصرُ والتمكين، وبلغ هذا الدين الآفاق، وأظهَره الله على جميع الأديان، وسار في هذا الطريق أصحابه من بعده، ونشروا هذا الدين في أرجاء المعمورة بسلاحين عظيمين؛ سلاح العمل وبذل الجهد، والإرادة القوية، وسلاح التضرع بين يدي الله، واستجلاب النصر والمعونة منه، فكان لهم ذلك؛ خرج البراء بن مالك مع أبي موسى الأشعري في معركة تستر، فلما حضرت المعركة وبدأت ساعة الصفر، قالوا: يا براء! نسألك بالله أن تقسم على الله أن ينصُرنا، قال: انتظروني قليلًا، فاغتسَل ولبس أكفانَه وأتى بالسيف، وقال: اللهم إني أُقسم عليك أن تجعلني أول قتيل وأن تنصُرنا، فكان أول قتيل وانتصر المسلمون.
إن هذه الأمة ربانية؛ لأنها تأخذ عزَّها وقوتها من الله، ومجدها يتكرَّر مع كل وقت وحين، عندما تتصل بالله وتلجأ إليه.
عباد الله، نحن محتاجون إلى دعوات بين يدي رب الأرض والسماوات، نستجلب بها التوبة والغفران، ونتحلل بها من المعاصي والآثام، ونغيِّر بها واقع حياتنا وأُمتنا، ولن يكون ذلك إلا بالتوبة النصوح والدعاء الصادق؛ قال سفيان الثوري: “بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون، فأوحى الله إلى أنبيائهم عليهم السلام: لو مشيتم إليَّ بأقدامكم حتى تَحْفَى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء، وتكلَّ ألسنتكم من الدعاء، فإني لا أجيب لكم داعيًا, ولا أرحم لك باكيًا، حتى تردُّوا المظالم إلى أهلها, ففعلوا فمُطروا من يومهم”.
إن رمضان شهر التغيير والبناء والتجديد، تغيير في السلوك والمعاملات والاهتمامات والتوجهات، تغيير يقود إلى أن نجعل لحياتنا هدفًا عظيمًا نسعى لتحقيقه، ومجتمعًا يقوم على التراحم والصدق والعدل نسعى لبنائه… إننا بحاجة إلى دعاء تُفيق بعده الأمة من غفلتها، وتصحو من سُباتها، ويعود إليها رشدُها، وتتوحد في جميع أمورها، ويتآلف على الخير أبناؤها، فلتكن دعوتك التي لا تُرد أيها الصائم لأُمتك ومجتمعك وحياتك، ولإحداث التغيير في سلوكك وتوجهاتك.
فاللهم يا موضع كلِّ شكوى! ويا سامع كل نجوى! ويا شاهد كلِّ بلوى! يا عالم كل خفيَّة! ويا كاشف كل بلية! يا مِن يَملك حوائجَ السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين! ندعوك دعاءَ مَن اشتدَّت فاقته، وضعفت قوتُه، وقلَّت حيلته، دعاء الغرباء المضطرين، الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت، يا أرحم الراحمين! اكشِف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتورٍ وذلٍّ وهوان..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
عباد الله، خرج سليمان عليه السلام – والحديث صحيح – يستسقي بالناس، فمر في الطريق بنملة وإذا هي قد انقلبت على ظهرها، ورفعت يديها إلى الحي القيوم، فمن أخبر النملة أن الله خلقها؟ من أخبر النملة أن الذي يحيي ويميت ويضر وينفع ويشافي ويعافي هو الله؟ أتدرون ماذا تقول النملة؟ تقول: يا حي يا قيوم! أغثنا برحمتك، فبكى سليمان وقال لقومه: عودوا فقد سقيتُم بدعاء غيركم.
النملة تعلم أن لا إله إلا الله، وتشتكي ضرَّها إليه، وهكذا العجماوات والسمكة في البحر، والدودة في الطين، إن الدعاء عبادة جميع المخلوقات من حولك، فلا تكن أشقاها.
وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كم بين التراب والعرش؟ وظن السائل أنه سوف يعد له بالكيلومترات أو بالأميال، قال علي رضي الله عنه: بينهما دعوة مستجابة.
وهذه الدعوة المستجابة تحتاج إلى توبة نصوحٍ وصدقٍ ويقينٍ مِن صاحبها؛ قال الأوزاعي رحمه الله: خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد, فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر من حضر، ألستم مقرِّين بالإساءة؟, قالوا: بلى, فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا, اللهم اغفر لنا, وارحمنا واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا بإذن الله.
هذا وصلُّوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
_______________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
Source link