العشر الأواخر من رمضان وليل الصالحين

كان النَّبيُّ – ﷺ – إذا دخَل العشْر، شدَّ مِئْزَرَه، وأحْيا ليْلَه – سهِره؛ أي: تعبَّد معظم الليل – وأيْقظ أهله”؛ (متَّفق عليه).

نَحمد الله – تبارَك وتعالى – أن نسأَ لنا في أعمارِنا حتَّى أشْهَدَنَا هذه اللياليَ المُباركة من شهْر رمضان، الَّذي سمَّاه رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – شهرًا مباركًا، حين قال من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: «أتاكُم رمضان، شهر مبارك، فرَض الله – عزَّ وجلَّ – عليْكُم صيامَه، تُفَتَّح فيه أبواب السَّماء، وتغلَّق فيه أبواب الجحيم، وتغَلُّ فيه مردة الشَّياطين، لله فيه ليلة خيرٌ من ألْف شهر، مَن حُرِم خيرَها فقد حُرِم»؛ (صحيح النسائي).

 

كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ فِي سَلَفٍ   **   مِنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإِخْـــــوَانِ 

أَفْنَاهُمُ المَوْتُ وَاسْتَبْقَاكَ بَعْدَهُـــــمُ   **   حَيًّا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنَ الدَّانِي 

 

تقول عائشة – رضي الله عنها -: “كان يَجتهِد في العشْر الأواخِر ما لا يَجتهِد في غيرها”؛ (كما رواه مسلم).

 

وتقول – رضِي الله عنْها -: “كان النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – إذا دخَل العشْر، شدَّ مِئْزَرَه، وأحْيا ليْلَه – سهِره؛ أي: تعبَّد معظم الليل – وأيْقظ أهله”؛ (متَّفق عليه).

 

وقد حثَّ النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – على الاستِعاذةِ من أرْذَل العمر، فقال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك أن أُردَّ إلى أرْذل العمر، وأعوذُ بك من فِتْنة الدُّنيا، وأعوذ بكَ من عذاب القبْر»؛ (رواه البخاري).

 

وكان سعْد بن أبي وقَّاص يعلِّم بنيه هؤلاءِ الكلِمات كما يعلِّم المعلِّم الغِلْمان الكِتابة، ويقول: “إنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – كان يتعوَّذ منهنَّ دبُر الصَّلاة”؛ (البخاري).

 

ولا شكَّ أنَّها مرحلة عمريَّة استقطبتْ كثيرًا من الاهتِمام، طيلة العصور البشريَّة المختلِفة، ونسجتْ حولَها من التَّعاويذ والخرافات – بغْية التَّخْفيف من أعْراضِها – ما طارتْ شُهْرَتُه في الآفاق.

 

وتوصَّل الباحثون – في دراسة حديثة – إلى أنَّ مدار تَخفيف آثار مرحلة أرْذل العمر على صاحبِها، يكمن في عنصرَين اثنين هما: القراءة والرياضة؛ لما لهاتين الوسيلتَين من تأثير على خلايا الجسم المختلفة – الدماغيَّة والعضليَّة والعصبيَّة – فتعمل على تنشيطِها وتقْويتها، فتحمي الإنسانَ من الضَّعف والخُمول، على أن تُمارَس في مراحل العمر الأولى بعد التَّمييز والتَّكليف، ويواظب عليْها.

 

وقد هيَّأ لنا الإسلام هاتَين الوسيلتَين باعتبارِهِما طريقتَين للتقرُّب إلى الله، ونيْل رضاه، وهما: الصَّلاة وقراءة القرآن؛ فقد جعل الله الصَّلاة رُكنًا من أرْكان الإسلام تؤدَّى خَمْس مرَّات في اليوم، مع ما يصْحَبُها من رواتِب تبلُغ في اليوم الواحد اثْنَتَي عشْرة أو أرْبع عشْرة ركعة[2]، فضلاً عن النَّوافل التي لا تُحْصَر بعدد.

 

فالصَّلاة فيها من الحركات الخفيفة والمتناسِقة، التي تُبقي على خلايا الأجهِزة المختلِفة للجِسْم نشِطة وقويَّة، ومن أفضل الصَّلوات بعد الفريضة صلاة قيام اللَّيل؛ لما لها من تأْثير في صفاء النَّفس وسكونِها وطمأنينَتِها.

 

وقد أظهرتِ الدِّراسات الحديثة أنَّه من الصِّحِّي جدًّا قطْع النَّوم في اللَّيل، والقيام ببعْض الحركات اليسيرة، ثمَّ الرجوع إلى النَّوم، وليس أفضل من صلاة قيامِ اللَّيل لتحْقيق هذا الهدف.

 

كما أظهرتِ الدِّراسات أيضًا وجودَ فوائدَ مختلفة لحركات الصَّلاة المختلِفة على صحَّة الجسم وعافيتِه، فمثلاً: وضْع اليد اليمنى على اليُسرى عند المعصم، تُساعِد في معالَجة الاكتِئاب والاضطِراب والقلَق، فتعْطي نوعًا من الاستِرْخاء والسَّكينة، كذلِك فإنَّ وضْع الجبهة على الأرْض في السُّجود، يعمل على تفْريغ الجسم من الشحْنات الكهربائيَّة، ممَّا يخلِّص الجسم من الصداع والقلق والاضطِراب والإرْهاق، إلى غير ذلك من الفوائد.

 

ولعلَّ رمضان درَّبه على قِيام اللَّيل في سائر الليالي الأُخرى؛ قال النَّوويُّ: “يُستحبُّ أن يُزاد من العبادات في العشْر الأواخر من رمضان، وإحياء لياليه بالعبادات”.

 

وقال الشَّافعيُّ: “أستحبُّ أن يكونَ اجتِهادُه في نهارِها كاجتهادِه في ليلِها”.

 

وكان النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يلتزِم ذلك، ويحثُّ أهلَه وأمَّتَه عليه، قال عليُّ بنُ أبِي طالب – رضِي الله عنْه -: “كان النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يوقِظ أهلَه في العشْر الأواخر من رمضان”؛ (صحيح سنن التِّرْمذي).

 

كيف وفيها ليْلة القدر، التي هي خير من عبادة ألْف شهر؛ أي: 83 سنة وأربعة أشهر، قال بعض أهل العلم: “هِي خيرٌ من الدَّهر كلِّه؛ لأنَّ العرب تذكُر الألف غاية في العدد”، وهي ليلة {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]، إنَّها اللَّيلة التي تتنزَّل فيها الملائكة حتَّى تكون أكثر في الأرض من عدَد الحصى.

 

وقال النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «ليْلة القدْر: ليلة سابعةٍ أو تاسعةٍ وعشرين، إنَّ الملائكة تلك الليلة في الأرْض أكثر من عدَد الحصى»؛ (صحيح الجامع).

 

يؤمِّنون على دعاء النَّاس، ويسلِّمون على أنفُسِهم وعلى المؤمنين في المساجِد حتَّى يطلع الفجْر.

 

وهي ليلة الحُكْم؛ {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، وهي الليلة التي مَن قامها إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه.

 

فوجب الاهتمام بهذِه اللَّيلة وتعْظيم أمرِها، قال الورَّاق: “سمِّيتْ ليلة القدر؛ لأنَّه نزل فيها كِتاب ذو قدْر، على لسان مَلَك ذي قدْر، على رسولٍ ذي قدْر، وأمَّة ذات قدْر”.

 

قال الزهري: “سمِّيتْ ليلة القدر؛ لِعِظَمها وقدْرها وشرَفها، من قولهم: لفلان قدْر؛ أي: منزلة”.

 

فيا مَن أراد الرفعة في الدارَين، وأراد الفوز بالمرتبتَين، استغلَّ فرصة العشر؛ لجبر ما مضى.

 

تَنَصَّفَ الشَّهْرُ وَالَهْفَاهُ وَانْصَرَمَــــــــــا   **   وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ بِالجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَـا 

وَأَصْبَحَ الغَافِلُ المِسْكِينُ مُنْكَسِــــــرًا   **   مِثْلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَــــا 

مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِذَارِ فَمَـــا   **   تَرَاهُ يَحْصُدُ إِلاَّ الهَمَّ وَالنَّدَمَــــــــــــا 

طُوبَى لِمَنْ كَانَتِ التَّقْوَى بِضَاعَتَـــــهُ   **   فِي شَهْرِهِ وَبِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمَـــــــا 

 

وقد أخْفاها ربُّنا – عزَّ وجلَّ – حتَّى لا يُقتصَر في العبادة عليْها، دون سائر العشر.

 

قال الفخر الرازي – رحِمه الله -: “إنَّ الله أخْفى هذه اللَّيلة لوجوه، أحدها: أنَّه أخفاها كما أخْفى سائر الأشياء، فإنَّه أخفى رضاه في الطَّاعات حتَّى يرْغبوا في الكلِّ، وأخْفى غضبه في المعاصي ليحترِزوا عن الكلِّ، وأخفى الإجابة في الدُّعاء ليبالغوا في كلِّ الدعوات، وأخْفى قبول التوبة ليواظِب المكلَّف على جَميع أقسام التَّوبة”.

 

وفي حديث عبادة بن الصَّامت – رضِي الله عنْه – قال: خرج رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – ليخبِر النَّاس بليلة القدْر، فتلاحى – تنازع وتخاصم – رجُلان من المسلِمين، فقال النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «خرجتُ لأخبِرَكم، فتلاحى فلان وفلان، وإنَّها رفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمِسوها في التَّاسعة والسَّابعة والخامِسة»؛ (البخاري).

 

وقال – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «وقدْ رأيتُ هذه اللَّيلة فأُنسيتُها، فالتمِسوها في العشْر الأواخر في كلِّ وتر»؛ (مسلم).

 

وأرْجح الأقْوال أنَّها في الوِتْر من العشْر الأواخر، وأنَّها تنتقِل.

 

وأرْجى أوْتار العشر عند الجمهور: ليلة سبْع وعشرين؛ “فتح الباري”.

 

عن زِرِّ بن حُبَيْش قال: سألتُ أُبَيَّ بن كعب – رضِي الله عنْه – فقلتُ: إنَّ أخاك ابن مسعود يقول: “مَن يَقُم الحوْل يُصِبْ ليلةَ القدْر”، فقال – رحِمه الله -: “أراد ألاّ يتَّكل النَّاس، أما إنَّه قد علم أنَّها في رمضان، وأنَّها في العشْر الأواخر، وأنَّها ليلة سبع وعشرين”، ثمَّ حلف – لا يستثني – أنَّها ليلة سبع وعشرين، فقلتُ: بأيِّ شيءٍ تقول ذلك يا أبا المنذِر؟ قال: بالعلامة أو بالآية الَّتي أخبرَنا رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها”؛ (مسلم).

 

ويدلُّ عليْه أيضًا قولُه – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «تحرَّوا ليْلة القدْر، فمَن كان متحرِّيَها فليتحرَّها في ليْلة سبعٍ و عشْرين»؛ (صحيح الجامع).

 

وقالتْ عائشة – رضِي الله عنْها -: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيت إن علمْتُ أي ليلةٍ هيَ ليلة القدر، ما أقولُ فيها؟ قال: «قولي: اللهمَّ إنَّك عفوٌّ تُحبُّ العفو فاعفُ عنِّي»؛ (متَّفق عليْه).

 

ولقدِ اهتمَّ السَّلف بهذه العشْر، وهذه الليلة أيّما اهتِمام.

يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا   **   رُبَّ صَوْتٍ لا يُرَدُّ 

لا يَقُومُ اللَّيْــــــلَ إِلاَّ   **   مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِـدُّ 

 

ومن فرْط حبِّهم لهذه اللَّيالي المباركة: أنَّهم كانوا يستحبُّون أن يغتسِلوا كلَّ ليلةٍ من لياليها – كما كان يفعل النخعي – وكان أيُّوب السختياني يغتسِل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبَس ثوبَين جديدين، ويتطيَّب.

 

ورُوي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنَّه إذا كان ليلة أرْبع وعشرين، اغتسل وتطيَّب، ولبس حلَّة: إزار ورداء، فإذا أصبح طواهُما فلم يلبَسْهما إلى مثلِها من قابل.

 

وكان ثابتٌ البناني وحميدٌ الطَّويل يلبَسان أحسنَ ثيابِهما، ويتطيَّبان ويطيِّبان المسجد بالنَّضوح في اللَّيلة التي تُرْجَى فيها ليْلة القدر.

 

وقال ثابتٌ: وكان لتميم الدَّاريِّ حُلَّة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

 

ولَم يكونوا يقتصِرون في إحياء العشر على أنفسهم، بل كانوا يوقظون نساءهم وأبناءهم، تأسِّيًا برسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال ابن رجب: “ولم يكُن النبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – إذا بقي من رمضان عشَرة أيَّام، يدَع أحدًا من أهلِه يُطيق القيام إلاَّ أقامه”.

 

وقال سفيان الثَّوري: “أَحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يَتهجَّد باللَّيل، ويَجتهِد فيه، ويُنهِض أهله وولدَه للصَّلاة إن أطاقوا ذلك”.

 

بل كان هذا ديْدن عمر بن الخطَّاب في سائر الأيَّام، فقد كان يصلِّي من اللَّيل ما شاء الله، حتَّى إذا كان نصف اللَّيل، أيْقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم: الصَّلاةَ الصَّلاة، ويتلو: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

 

وهذا ابن عبَّاس – رضِي الله عنْه – قال: “بتُّ عند خالتِي ميْمونة ليلة، فقام النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فلمَّا كان في بعْض اللَّيل، قام الرَّسول – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فتوضَّأ من شنٍّ معلَّقة وضوءًا خفيفًا ثمَّ قام يصلِّي، فقُمت فتوضَّأت نحوًا ممَّا توضَّأ، ثمَّ جئتُ فقُمت عن يسارِه، فحوَّلني فجعلنِي عن يَمينه، ثمَّ صلَّى ما شاء الله”.

 

قال إبراهيم بن وكيع: “كان أبي يصلِّي، فلا يبقى في دارِنا أحدٌ إلاَّ صلَّى، حتَّى جارية لنا سوداء”.

 

كان طلحة بن مصرف يأمُر نساءَه وخدمه وبناتِه بقيام الليل، ويقول: “صلُّوا ولو ركعَتَين في جوْف اللَّيل، فإنَّ الصَّلاة في جوْف اللَّيل تحطُّ الأوْزار، وهي من أشْرف أعمال الصَّالحين”.

 

قال إبراهيم بن شماس: “كنتُ أعرِف أحمد بن حنْبل وهو غُلام يُحيي اللَّيل”.

 

وكان ابنُ عُمَر يقرأ هذه الآية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، قال: “ذاك عثمان بن عفان – رضي الله عنه”.

 

وقال ابنُ أبي حاتم: “وإنَّما قال ابنُ عمر ذلك؛ لكثرة صلاةِ أمير المؤمنين عُثمان باللَّيل وقراءته، حتَّى إنَّه ربَّما قرأ القُرآن في ركعة”.

 

وعن علقمة بن قيس قال: “بتُّ مع عبدالله بن مسعود ليلة، فقام أوَّل الليل، ثمَّ قام يصلِّي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجِد حيِّه: يرتِّل ولا يراجع، يُسمع مَن حوله ولا يرجع صوته، حتَّى لَم يبْقَ من الغلس – ظلمة آخر الليل – إلاَّ كما بين أذان المغرب إلى الانصِراف منها، ثم أوْتر”.

 

وفي حديث السائب بن زيد قال: “كان القارئ يقْرأ بالمئين – يعني: بمئات الآيات – حتَّى كنَّا نعتمِد على العصيِّ من طول القيام، قال: وما كانوا ينصرِفون إلاَّ عند الفجر“.

 

كيف ورسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقول: «يتنزَّل ربُّنا – تبارك وتعالى – كلَّ ليلة إلى السَّماء الدنيا، حين يبقى ثلُث الليل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألُني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له» ؟))؛ (متَّفق عليه).

 

وفي لفظٍ عند مُسلم: «مَن يقرض غير عَديم (فقير) ولا ظلوم».

 

وكانوا يهتمُّون مع الصَّلاة بالقُرآن الكريم؛ فقد نقَلَ الذَّهبي عن الأسودِ بن زيْد: “أنَّه كان يَختم القرآن في رمضان في كلِّ ليلتَين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يَختم القُرآن في غير رمضان في كلِّ ستِّ ليال”.

 

وكان قتادة – رحِمه الله – يَختم القُرآن في كلِّ سبع ليالٍ مرَّة، فإذا دخل رمضان ختمَ في كلِّ ثلاث ليال مرَّة، فإذا دخل العشْر ختم في كلِّ ليلة مرَّة.

 

وهذا من خصائصِ هذا الشَّهر المبارك، الَّذي يبارك الله فيه للمخْلصين في أوقاتِهم وعبادتِهم، فلا عجب.

 

• بل إنَّ الشَّافعي كان يَختم القُرآن في شهْر رمضان ستِّين ختمة، وفي كل شهرٍ ثلاثين ختمة، يَختمه في صلاة، وليس قراءة، والخبر مشْهور في كتُب السير.

• وكان وكيع بن الجرَّاح “يقرأُ القرآن في رمضان في الليل ختمة وثلثًا، ويصلِّي مع ذلك اثنتي عشرة ركعة من الضِّحى، ويصلِّي من الظهر إلى العصر”.

• ويقول عبدالرَّحمن بن هرمز: “كان القرَّاء يقومون بسورة البقَرة في ثَمان ركَعات، فإذا قام بِها القرَّاء في اثنتَي عشرةَ ركعة، رأى النَّاس أنَّه خفّف عنْهم”.

• ويقول ابنُ أبي مُليْكة: “كنتُ أقومُ بالنَّاس في شهر رمضان، فأقرأُ في الرَّكعة: “الحمد لله فاطر” (46 آية) ونحوَها، ما يبلُغُني أنَّ أحدًا يستثْقِل ذلك”.

• وقام رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – بأصحابه مرَّة إلى ثلُث اللَّيل، ومرَّة إلى نصْف اللَّيل، فقالوا: لو نفلْتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: «إنَّه مَن قام مع الإمام حتَّى ينصرِف، كتب له قيام ليلة»؛ (صحيح أبي داود).

• وكانت امرأة أبي محمَّد حبيب الفارسي تقول له بالليل: “قد ذهب اللَّيل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصَّالِحين قد سارت قُدَّامَنا، ونحن قد بقينا”.

 

ويدلُّ كلُّ ذلك على شغَفهم الشَّديد بالصَّلاة، وولعِهم بحضور الجماعة، فقد كان الرَّبيع بن خُثيم – رحِمه الله – بعد ما سقط شقه – أي: أصابه الشَّلل النصفي – يهادَى بين الرجُلين في المسجد، وكان أصحابُه يقولون له: يا أبا اليزيد، قد رخَّص الله لك لو صلَّيت في البيت، فيقول: “إنَّه كما تقولون، ولكنِّي سمِعْتُه ينادي: حيَّ على الفلاح، فمَن سمع منكم: حيَّ على الفلاح، فليُجِبْه ولو زحفًا، ولو حبوًا”.

 

وعن ابن المسيب قال: “ما فاتتْني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة، وما فاتتني التَّكبيرة الأولى منذ خَمسين سنة، وما نظرتُ في قفا رجُل في الصَّلاة منذ خَمسين سنة”.

 

وعن عبدالله بن الشخير – رضِي الله عنه – قال: “أتيتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وهو يصلِّي، وفي صدْره أزيز كأزيز المرجل من البكاء”؛ صحيح أبي داود.

 

وقال وكيع: “كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفُتْه التَّكبيرة الأولى، واختلفتُ إليه قريبًا من ستِّين سنة، فما رأيتُه يقْضي ركعة واحدة”.

 

وقال ابن وهب: رأيتُ سفيان في الحرَم بعد المغرب صلَّى، ثم سجد سجدةً، فلم يرجع حتى نودي للعشاء.

 

وقال الحسين: “تزوَّج عثمان بن أبي العاص امرأةً من نساء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: “واللهِ، ما نكحتُها حين نكحتُها رغبةً في مال ولا ولد، ولكن أردتُ أن تُخْبِرني عن ليل عمر”.

 

وقد قال الحافِظ ابن كثير عن ليْل عمر: “كان يصلِّي بالنَّاس العشاء، ثم يدخُل بيْتَه فلا يزال يصلِّي إلى الفجْر”.

 

ويقول نافع عن ابن عمر – رضِي الله عنهم أجْمعين -: “إنَّه لمَّا قرأ قولَه تعالى: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] بكى بكاءً شديدًا، وأخذ يردِّد: والله، إنَّ هذا الإحْصاء لشديد، والله إنَّ هذا الإحصاء لشديد”.

 

وكان ابن مسعود إذا هدأتِ العيون، قام، فيُسمَع له دويٌّ كدويِّ النَّحل حتى الصبح.

 

وكان علي بن أبي طالب إذا حضر وقْت الصَّلاة، يتزلزل ويتلوَّن وجهُه، فقيل له: “ما لك يا أميرَ المؤمنين؟”، قال: “جاء وقت أمانةٍ عرضَها الله على السَّموات والأرض والجبال، فأبيْن أن يحمِلْنها، وأشفقن منها، وحملتُها”.

 

وقيل للحسن: ما بال المتهجِّدين من أحسن النَّاس وجوها؟ قال: “لأنَّهم خَلَوا بالرَّحمن، فألبسَهم نورًا من نورِه”.

 

وقال أبو النضر إسحاق بن إبراهيم: “كنت أسمع وقْع دموع سعيد بن عبدالعزيز – يقصد إمام أهل الشام التنوخي – على الحصير في الصَّلاة”.

 

وقال أبو عبدالرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبدالعزيز: ما هذا الَّذي يعرض لك في الصَّلاة؟ فقال:”يا ابن أخي، وما سؤالُك عن ذلك؟” قلتُ: لعلَّ الله أن ينفعني به، قال: “ما قُمتُ إلى الصَّلاة إلا مثلتْ لي جهنَّم”.

 

وقال حاتم الأصم: “فاتتْني صلاة الجماعة، فعزَّاني أبو إسحاق البخاري وحْده، ومات لي ولدٌ، فعزَّاني أكثر من عشَرة آلاف، ولأن مصيبة الدِّين أهْون عند النَّاس من مصيبة الدنيا”.

تَزَوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّكَ لا تَـــــــدْرِي   **   إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الفَجْــــــرِ 

فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّـةٍ   **   وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ 

وَكَمْ مِنْ صَبِيٍّ يُرْتَجَى طُولُ عُمْـرِهِ   **   وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لا يَــــــــدْرِي 

 

فهؤلاء هم الرِّجال الذين يفتخر بهم، ويُذكَرون في المواطن.

 

عن حذيفة قال: جاء أهل نجْران إلى رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فقالوا: ابعثْ عليْنا رجُلاً أمينًا، فقال: «إني أبعثُ إليكم رجلاً أمينًا»، فاستشرف لها أصحابُ رسولِ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فبعث أبا عُبيدة بن الجراح؛ (رواه البخاري)، وقال فيه – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لكلِّ أمَّة أمين، وأمين هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح»؛ (متَّفق عليه).

 

وقال عمر لجلسائِه: “تمنَّوا”، فتمنَّوا، فقال عُمر: “لكنِّي أتمنَّى بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عُبَيْدة بن الجرَّاح”؛ المستدرك.

 

هؤلاء فرسان الليل.

كان أبو إسحاق السَّبيعي – رحمه الله – يقول: “يا معشر الشَّباب، جدُّوا واجتهدوا، وبادروا قوَّتكم، واغتنِموا شبيبتَكم قبل أن تعجزوا، فإنَّه قلَّ ما مرَّت عليَّ ليلة إلاَّ قرأت فيها بألف آية”.

 

وكان عبدالواحد بن يزيد – رحِمه الله – يقول لأهله في كل ليلة: “يا أهلَ الدَّار، انتبهوا – أي: من نومكم – فما هذه – أي: الدنيا – دار نوم، عن قريب يأكلُكم الدود”.

 

وقال محمد بن يوسف: كان سفيان الثَّوري – رحِمه الله – يُقيمنا في اللَّيل ويقول: “قوموا يا شباب، صلُّوا ما دمتم شبابًا، إذا لم تصلُّوا اليوم، فمتى؟!”.

 

وكان بعض الصَّالحين يقف على بعض الشَّباب العبَّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم: لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فتناموا كثيرًا، فتخسروا كثيرًا”.

 

وقال أبو جعفر البقال: “دخلتُ على أحمد بن يحيى – رحمه الله – فرأيتُه يبكي بكاء كثيرًا ما يكاد يتمالك نفسه، فقلت له: أخبرني ما حالك؟ فأراد أن يكتُمني فلم أدعْه، فقال لي: فاتني حزبي البارحة، ولا أحسب ذلك إلاَّ لأمر أحدثتُه، فعوقبت بمنْع حزبي، ثم أخذ يبكي”.

 

وقال رجل للحسَن البصري: أعياني قيام الليل، فقال: “قيَّدتْك خطاياك”.

 

وقالت امرأة مسروق بن الأجْدع: “واللهِ، ما كان مسروق يُصْبِح من ليلة من اللَّيالي إلاَّ وساقاه منتفِخَتان من طول القيام”، وكان – رحِمه الله – إذا طال عليه الليل وتعب، صلَّى جالسًا ولا يترك الصَّلاة، وكان إذا فرغ من صلاتِه يزحف – أي: إلى فراشه – كما يزحف البعير!

 

وكان ثابت البناني قد حبِّبَتْ إليه الصلاة، فكان يقول: “اللَّهمَّ إن كنتَ أذِنت لأحدٍ أن يصلِّي لك في قبره، فائذن لي أن أصلِّي في قبري”.

 

وقال أبو الدرداء: “لوْلا ثلاث ما أحببتُ العيش يومًا واحدًا: الظَّمأ لله بالهواجر، والسُّجود لله في جوْف الليل، ومجالسة أقْوام ينتقون أطايِبَ الكلام كما ينتقى أطايب الثَّمر”.

 

وقال عبدالله بن داود: “كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة، طوى فراشه”؛ أي: كان لا ينام طول الليل.

 

وقال أحمد بن حرب: “يا عجبًا لِمن يعرف أنَّ الجنَّة تُزَيَّن فوقه، وأنَّ النَّار تسعَّر تحته، كيف ينام بيْنهما؟!”.

 

قال معْمر: “صلَّى إلى جنبي سليمان التيْمي – رحِمه الله – بعد العشاء الآخرة، فسمعتُه يقرأ في صلاتِه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] حتَّى أتى على هذه الآية: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]، فجعل يردِّدها حتَّى خفَّ أهل المسجد وانصرفوا، ثمَّ خرجتُ إلى بيْتي، فلمَّا رجعتُ إلى المسجد لأؤذِّن الفجر، فإذا سليمان التيْمي في مكانه كما تركتُه البارحة، وهو واقف يردِّد هذه الآية لم يُجاوزها: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

 

وقال الفُضَيْل بن عياض – رحِمه الله تعالى -: “إذا لم تقْدر على قيام اللَّيل، وصيام النَّهار، فاعلم أنَّك مَحْروم مكبَّل، كبَّلتك خطيئتُك”.

 

وكان أحد الصَّالحين يصلِّي حتَّى تتورَّم قدماه، فيضربُها ويقول: “يا أمَّارة بالسوء، ما خلقتِ إلاَّ للعبادة”.

 

وصلَّى سيِّد التابعين: سعيد بن المسيب – رحِمه الله – الفجْر خمسين سنة بوضوء العِشاء، وكان يسرُد الصَّوم.

 

وقال يزيد بن أبان الرقاشي – رحِمه الله – : “إذا نِمْتُ فاستيقظْتُ، ثمَّ عُدتُ في النَّوم، فلا أنام اللهُ عيني”.

 

وكان عبدالعزيز بن أبي روَّاد – رحِمه الله – يُفرَش له فراشه لينام عليْه باللَّيل، فكان يضَع يده على الفراش فيتحسَّسه ثمَّ يقول: “ما ألْيَنك! ولكن فِراش الجنَّة ألين منك”، ثمَّ يقوم إلى صلاته.

 

قال أبو سليمان الداراني – رحمه الله -: “ربَّما أقوم خَمْسَ ليالٍ متوالية بآيةٍ واحدة، أردِّدُها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها، ولولا أنَّ الله تعالى يمنُّ عليَّ بالغفلة، لما تعدَّيت تلك الآية طول عمري؛ لأنَّ لي في كلٍّ تدبُّر علمًا جديدًا، والقُرآن لا تنقضي عجائبُه”.

 

قال رجلٌ لإبراهيم بن أدهم – رحِمه الله -: إني لا أقْدِر على قيام اللَّيل، فصف لي دواء، فقال: “لا تعْصِه بالنَّهار، وهو يقيمُك بين يديْه في اللَّيل، فإنَّ وقوفك بين يديْه في اللَّيل من أعْظم الشرف، والعاصي لا يستحقُّ ذلك الشَّرف”.

 

فاللهُمَّ وفِّقْنا إلى ما تُحبُّه وترْضاه، واجعلْنا ممَّنِ اعتنى برمضان، فصام يومَه، وأحيا ليْله، وقضى حقَّه.

 

والحمد لله ربِّ العالمين.

 


[1] درس ألقي ليلة السَّابع والعشرين من رمضان (1430 هـ) بمسجد الهدى بمراكش.

[2] وقد أظهر الإعجاز الرقمي في القرآن الكريم أن الآية: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ ﴾ رقمها في سورة البقرة: 238، وهو حاصل ضرب 17 (عدد ركعات الفرائض) في 14 (عدد ركعات الرواتب)، والله أعلم.

_____________________________________________________
الكاتب: د. محمد ويلالي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *