منذ حوالي ساعة
فهنيئًا لكم الصيام والقيام وقراءة القرآن، وهنيئًا لكم ختام شهر رمضان، وهنيئًا لكم عيدكم عيد الفطر المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال
فلقد كان شهر رمضان محطةً إيمانية، ومحرابَ عبادة، وميدانًا تربويًّا، وساحة بذل وعطاء، وعمل وجِدٍّ واجتهاد؛ لتستقيم النفوس على طاعة ربها ومنهاج نبيها محمد صلى الله عليه وسلم طوال العام، وحتى تلقى ربها، وقد ثبَّتها بالإيمان الخالص، والعمل الصالح، والتوجُّه الصادق، ولتؤدي واجبها في هذه الحياة، وتعمُر هذا الكون بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إذا جَلْجَلَت الله أكبر في الوغـــــى *** تخاذلت الأصوات عن ذلك النِّدا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده *** وضاعت مساعيه وأتعابه سُدى
فهنيئًا لكم الصيام والقيام وقراءة القرآن، وهنيئًا لكم ختام شهر رمضان، وهنيئًا لكم عيدكم عيد الفطر المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال، وأن يرفع الدرجات، ويتجاوز عن الزلَّات والهفوات؛ فهو سبحانه قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: إن من القيم العظيمة التي تعلَّمها وتربَّى عليها المسلمون في شهر رمضان تحمُّلَ المسؤولية، فكما كان المسلم مسؤولًا عن صلاته وصيامه وقيامه، يحاسب نفسه أن يقصِّر فيهما، أو أن يرتكب خطأ يؤثر في قبولهما أو نقص الأجر والثواب منهما، فيتحرى طعامه وشرابه، ووقت إفطاره وسحوره، ويترقَّب صوت المؤذن، ويدعو لنفسه، ويُخرِج زكاة الفطر طُهْرَةً لنفسه ولمن يعول؛ لأنه يستشعر مسؤوليته كذلك، وهذه المسؤولية عامة وشاملة في حياة كل مسلم، خاطب الإسلام بها الأفراد والمجتمع والأمة، وجعل القيام بهذه المسؤولية سببًا للحياة السعيدة الطيبة، والنجاة في الآخرة، فتزكية النفس والمحافظة عليها مسؤولية، والقيام بالحقوق الأسرية مسؤولية، وإتقان الأعمال والقيام بالواجبات الوظيفية مسؤولية، وتقلُّدُ المناصب والمراكز الهامة مسؤولية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمساهمة الجادة في تقوية روابط المجتمع، ونشر الخير والتعاون على البِرِّ مسؤولية، وهكذا المسؤولية في حياتنا تظهر في جميع سلوكياتنا وتصرفاتنا؛ رجالًا ونساءً، شبابًا وشيوخًا، حُكَّامًا ومحكومين؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته»؛ (البخاري (8/104))، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، فكل عمل مكلَّف به شرعًا، أو التزمت بالقيام به، وكان فيه مصلحة لك أو لغيرك، فهو مسؤولية ينبغي عليك القيام بها على أحسن حال، فالمسؤولية فردية؛ لأن التكليف فرديٌّ، والحساب كذلك يوم القيامة؛ قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 – 95].
إن للفرد منا مسؤوليةً أمام الله سبحانه وتعالى بحبِّه والتزام منهجه، وتنفيذ أوامره، ومسؤولية تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم بحبه والاقتداء به، والتمسك بسُنَّتِه، ومسؤولية تجاه دين الله بالعمل به، والدعوة إليه، والدفاع عنه، وهناك مسؤولية المسلم تجاه أُمَّتِهِ مجتمعه ووطنه، يجب أن يؤدِّيَها، وعليه مسؤولية تجاه بيته وأسرته وأولاده، وعليه مسؤولية سيُسأل عنها يوم القيامة تجاه أخلاقه وسلوكه، وعليه مسؤولية تجاه عمله ودراسته، ووظيفته ومنصبه يجب أن يقوم بها، وهناك مسؤولية عظيمة على المسلم أن يقوم بها تجاه نفسه بتزكيتها وتربيتها، إنها مسؤولية الحياة من قام بها فاز، وخُفِّف عنه الوقوف، والسؤال أمام الله يوم القيامة.
أيها المسلمون: لقد ضرب الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الكثيرَ من المواقف والأحداث على تحمُّل المسؤولية؛ قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21]، إنه رجلٌ من أقصى المدينة يسعى، لماذا يأتي؟ لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21]، ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفًا من فوات صفقة تجارية – مثلًا – ولا خوفًا على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه، وهو يعلم ذلك؛ لأنه قُتِلَ بسبب جَهْرِهِ بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقُتِلَ فقِيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27]، إذًا هذا رجل واحد، جاء يسعى بكل قوته؛ لأنه يشعر أنه مسؤول، وكأنه يرى أن هذا الأمر لا بُدَّ أن يبلِّغه قبل أن يموت، أو يهلِك دونه، وفي معركة أُحُدٍ وهزيمة المسلمين لم يكن التبرير وإلقاء المسؤولية على قوة العدو، وكثرة عدده، ودقة خططه، بل جاء القرآن ليصدع بالحق، ويُبَيِّن أن المسلمين الذين خالفوا أمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من تقع عليهم مسؤولية الهزيمة؛ فقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، هكذا يجب أن يتربَّى العظماء، وهكذا يجب أن تكون أخلاقهم، وهكذا يجب يتحملوا مسؤولياتهم؛ فهم لا يعرفون ثقافة التبرير، واختلاق الأعذار، والتنصُّل عن المسؤوليات، مهما كان حجمها؛ قدِم الأحنف بن قيس على عمر رضي الله عنه في وفد من العراق، في يوم صائف شديد الحر، وهو محتجز بعباءة، يحاول إدراك بعيرًا من إبل الصدقة شَرَد، فقال: يا أحنفُ، ضَعْ ثيابك، وهلُمَّ فأعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حقٌّ لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، هلَّا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة يكفيك هذا، قال عمر: ثكِلتك أمك، وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إن أمة الإسلام بهذه القيم سادتِ الأُمَم، وحكمت العالم، وأسَّست حضارة لم يعرف لها التاريخ مثيلًا، فكل فردٍ عرَف دوره ومسؤوليته، فقام بواجبه لم ينتظر أن يكون على هامش الحياة ليس له دور أو واجب يجب أن يؤديه، أو أن يُلقِي بمسؤولياته على الآخرين مهما كانت ظروفه.
إن الشعور بالمسؤولية والقيام بها وأداءها على أكمل وجه يجب أن يصبح في حياتنا خُلُقًا وسلوكًا وضرورةً تُمارَس في واقع الحياة، في البيت والوظيفة، والشارع والعمل؛ حتى لا يحدث التساهل في الواجبات، وحتى لا تضيع الحقوق، وحتى تنجز الأعمال، وتنجح المشروعات، وتسود الأخلاق وقِيَمُ الخير في المجتمعات، وإن الأمم والدول والمجتمعات لا تتطور ولا يحدث في حياتها تغيير إلا عندما تحمل مثل هذه القيم.
أيها المسلمون، عباد الله: هذا يوم عيدكم، اجعلوه يوم فرح وتوسعة على الأهل والأولاد، وصِلوا آباءكم وأمهاتكم وأرحامكم، وانظروا في أحوال الفقراء والمساكين والمرضى والأيتام، وأدْخِلوا عليهم الفرح والبهجة والسرور، وأكْثِروا من ذكر الله وشكره، واسألوه من فضله، واستقيموا على الطاعات والعبادات سائر أيامكم، وتسامحوا فيما بينكم.
ألَا وصلُّوا وسلِّموا على من أُمِرْتُم بالصلاة والسلام عليه، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، ولم شعثهم، وألِّف بين قلوبهم، واحقن دماءهم، اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم تقبَّل منا صيامنا وصلاتنا وسائر أعمالنا، واستعملنا في طاعتك، وادفع عنا وعن المسلمين شر الأشرار، وكيد الفجَّار، وطوارق الليل والنهار، إلا طارقًا يطرق بخيرٍ يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_____________________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
Source link