هل فعلا يحظى الفصيل العلماني في المغرب بقاعدة جماهيرية تُنيب لأفكاره وتخبت لبرنامجه الحداثي، وهل هي أفكار وبرامج تمثل الحاجات والانشغالات الحقيقية للناس صغيرهم وكبيرهم؟؟؟
هل فعلا يحظى الفصيل العلماني في المغرب بقاعدة جماهيرية تُنيب لأفكاره وتخبت لبرنامجه الحداثي، وهل هي أفكار وبرامج تمثل الحاجات والانشغالات الحقيقية للناس صغيرهم وكبيرهم؟؟؟
بدهي أن نشير مسبقا في سياق الإجابة عن هذا السؤال الاعتباطي المضمون، إلى حقيقة بل حقائق أقرّها الذوق العام للمجتمع المغربي المسلم المسالم، مفاد أوّلها أن هذا الاجتياح العلماني الحائف هو هجوم زائف يحظى بنفوذ معنوي لا عدد له يعضده ولا ثقل وجداني معتبر يسنده، اللهم عدّة إعلامية صاخبة الضجيج لا تزال تمشي وراء جنازته وتصاحب تأبينه بترانيم وتباريح منغومة البكاء ملحونة المكاء، تتوهم له الحياة، ويخدم القائمون على ضجيجها الملحون أسيادا لهم كان العرش الأبي والشعب الوفي قد أخرج سلفهم الغائر الصائل بالنار والبارود تحت طائلة دينية، ونية شرعية تتشاكل مع هوية وطنية حميمية.
ومفاد ثانيها أن هذا الاعتساف العلماني بات يفقد بل يُعادي علّة وجوده، وينسف سَبُّوبة فلسفة كينونته، ويفتقد لمشروعية إنفاذ برنامجه في إنصاف وتجرد، حيث هو هاهنا بات يهجم متجردا عن امتياز وحظوة الأغلبية، فهذه مواقع التواصل الاجتماعي كإعلام بديل غير منحاز شاهدة بالصوت والصورة والحركة على أن هذه الفئة صارت تشكل نشازا، بل أصبحت بضاعتها المزجاة، مرفوضة مطاردة في بغض وجفوة من طرف جمهرة المغاربة المسلمين، ناهيك عن أن تستجيب لمتطلعات وآمال هذه الجماهير الضاربة في الطول العرض، والتي رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيا ورسولا.
وليس الكلام هاهنا من باب الرجم بالغيب، وإنّما تشير إحصائيات مراكز الغرب نفسه للدراسات الاستراتيجية بلغة الأرقام عن المنحنى المتصاعد لعدد المتدينّين، الحريصين على توقيع وتنفيذ كل التكاليف الشعائرية بكل رضى وعزم ومحبة وتعظيم، بل حتى أولئك الذين اقتحموا عقبة المنهيات وقارفوا المعاصي فإن ذلك لا يقع منهم ولا يمكن أن يكون قد وقع في سياق الاستحلال والنكوص والارتداد عن ملة الإسلام، وإنّما هي معاصٍ يردفها إحساس صادق بالندم، مليء بالحسرة، يتلوها ولابد تضرع في خوف من غضب من يخالفون أمره ويأتون نواهيه، وإنها لحقيقة لطالما أراد الفصيل العلماني المتطرِّف العزف على حبلها المترهل، ومن ثم اتهام المسلمين المغاربة العصاة وتصويرهم في صورة أناس مارقين، وإلباسهم جبة الإلحاد والصدود والعناد.
وقد لا ينكر المرء، أو لا يملك أن يخفي حقيقة أن ظاهرة الإلحاد والمروق والارتداد عن دين الإسلام، هي ظاهرة موجودة في صفوف بعض الشباب، ولكنها ظاهرة لا تحظى بالقبول ولا الإقبال من طرف جمهور المغاربة الأحرار، فلا يزال المجتمع المغربي مجتمعا يعتز بهويته، حفيا بشعائر دينه معلنا لها في استعظام وانكسار واستسلام، فجله بل كلّه شديد الارتباط وثيق الصلة بدينه، فلا يستنكف أن يكون أفراده عبادا لخالقهم، يتضرعون له وينيبون بقلوب قد أرعش نبضها الحب والتعظيم، فلطالما رامت وتروم ذواتهم وأفئدتهم وألبابهم إخضاع أعناقهم وأعراضهم وأرزاقهم لأحكام الله وقوانين شريعته الغرّاء في اختيار حر، وتسليم لا حرج ولا مضض يسود محجته البيضاء، أو يُقعد صراطه المستقيم.
إن الناظر للطرف الثاني من النزاع والمواجهة، لم يصر من الشاق ولا العسير عليه، وهو ينظر إلى نوع وجنس هذا الفصيل الحداثي في نسخته المحلية المشوّهة، أن يكتشف أنه أمام ناس لهم أفئدة غير مهمومة بلقاء الله، فعلاقتهم به سبحانه قد تنزلت إلى ما دون الصفر، إذ لم تعد أذهانهم ولا عقولهم ولا قلوبهم تفكر في خالقها ولا رسوله ولا وحيه المنزل، ومن ثم لا تعبأ بواجب عبادته ولا هم يحزنون، إنه فصيل وإن تسمّى ذو الشيبة منهم بعبد الرحمن وعبد الله وهمّام وحارث، وتسمّت منهن الواحدة من النسويات بخديجة وعائشة وأسماء…فإن أصدق الأسماء احتمل الرسم منهم ومنهن على أكذب الفعال وأخس الأقوال، فارتخى من ظلمها واعتسافها حبل الانقياد وترهل، وفقدت في دواخلهم ودواخلهن الموبوءة العبادة وفعل التعبد كل معانيهما، بل وصل التدرّك والارتداد من القوم إلى نقيصة الاستدراك على الله ورسوله واتهامهما باللاعدل نعوذ بالله من الخذلان، كما نعوذ به جلّ في علاه من الحور بعد الكور.
وهو حور ونقض غزل وصلت إليه أفهامهم وتلبست بكبيرته عقولهم وأجسادهم الأنعامية، بعد ما كان الركز منهم إلى العهد القريب يسير ويمشي على خوف واستحياء وإغراب، يكر ركزه تارة ويفر تارات كثيرة، يُعلن بها مرة ويُسر بها مرات، يترجل إلى الواجهة حينا ويتوارى إلى الخلف أحيانا كثيرة، ثم ما فتئ أن تصوّل المروق وتغوّل منهم العقوق، فصار الإقعاد منهم استقامة، والاعوجاج فيهم استواء، والاستثناء منهم أصل… وتلك سيرة القوم قديما وحديثا وهو ما يعبّر عنه تقعيدا وتحريرًا بالمتوالية الفكرية بين الأجيال، وقد نبّه إلى هذه الظاهرة السلوكية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه حيث قال:”وإذا كان الغلطُ شبرًا، صار في الأتباع ذراعا ثم باعا، حتى آل هذا المآل” وفي موضع آخر نص رحمه الله على أن:” البدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا، وأميالا، وفراسخ”
إن الحقيقة التي يجب على المجاهدين بالكلمة منبوسها ومحبورها، في سياق مهمة إشهارها في وجه هذا العدوان بكل ثقة وعزة وثبات، هي فريضة فضح هذا الحراك والتعرية عن أهدافه وغاياته كما منطلقاته الاستغرابية المقيتة، وتتبع سوأة أهل هذا الحراك وناسه، وبيان أن معركتهم مع الدين نفسه لا مع فصيل يمثل جانبا منه، أو جماعة من المسلمين تتبنى فهما خاصا لنصوصه، وإني لأجزم باصما باليقين على ما مفاده: “أنه لو نهاهم الإسلام عن فت البعر لفتوه، ولو أمرهم بالسفور لتحجبوا، ولو رغّب لهم في الخنا لتبتلوا، ولو أباح لهم شرب الخمر لكفوا وانتهوا، ولو أمرهم بالسرقة لتعفّفوا، ولو فرض عليهم الزواج بواحدة لعدّدوا…”
إنه حراك يبغي من ورائه هؤلاء القضاء على الأخلاق، وهدم المنظومة القيمية لتلك الترسانة الأخلاقية التي ورتثها الأجيال الخالفة عن الأجيال السالفة من رصيد الوحي، بسند متصل الحلقات، محكم الآيات، والغريب العجيب أنك تجد الكثير منهم يفزع إلى الاستشهادات الشرعية في تعسف وإجحاف وتأويل جائر يبغي من وراء ذلك ترسيخ وتبيئة شذوذه وتطرفه المدني داخل قلعة المأمور به، البريء من حسبة المنهي عنه، وإنما كان هذا منهم لعلمهم بطبيعة العلاقة بين الناس ودينهم الإسلام، وأنها علاقة لا زالت تحظى بقوة الارتباط وجميل الاتصال…
ولعمري كيف تقتنع هذه الجماهير المسلمة بمشروع يهادن المثلية الجنسية ويرعاها ويدافع عنها، ثم يطفق أهله مخاصمين في جفوة وعناد وقسوة لشعيرة تعدّد الزيجات، فَلَكَمْ غض مجتمعه الحداثي الطرف عن اغتصاب الصغيرات في الفنادق المصنّفة ودور الخنا والماخورات المؤطرة، ثم ما فتئ أن أقام الدنيا ولم يقعدها، سالًّا سيف الإنكار من غمد الحقد على زواج الصغيرات، ولو تم هذا القران بإذن ورضا من ربّى وبَعّل وأنفق وكسا وأطعم، ونعني به السيد الوالد !!!.
وإنك تراهم قد أتوا أباهم عشاءً يبكون عن قتل قتيل، ثم ما لبثوا صباحا أن أشهروا بطاقة الاعتراض عن توقيع حكم الإعدام تحت طائلة شرعية منتصرين للقاتل ضدا على إرادة الله وحكمه المقرر، واستثناءً المردود على الحصر والمخصوص على القصر لأهل الدية وأولياء دم المغتصب المقتول لا لغيرهم البتة.
ولك أن تسرِّح طرفك وترسله في أي جوهر له عَرَضٌ فيه نسمة إسلام، ثم أخبرنا عن موقف القوم منه ومن أهله وأمكنته وأزمنته، ليرجع البصر خاسئا وهو حسير.
ولذلك كان من أولى الأولويات على كل غيور منتسب إلى دينه ووطنه وأمته بيان أنّها معركة بين الحق والباطل، وبين ما ينفع الناس والزبد الجفاء، وبين الخير والشر، وبين سوي الفطرة وممسوخ الصبغة، ثم إعلانها مدوية تحكي تفاصيل صيحتها أنه في كل معركة بين هذين النقيضين يقرر الله حكمه الحاسم الذي مفاده قوله سبحانه وتعالى: “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” وتقريره جلّ جلاله بمآلات هذا الصراع الدائر بين قوى البغي والإيمان، وبين قوى الشر وسخائم السعي في مناكب الأرض بالسيرة الحسنة والنفع المتعدي الخير، إذ قال سبحانه وتعالى مقررا هذا المآل الفاضح: “إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون”
على أن يأخذ المقاومون لهذا التيار الجارف المجادل أصحابه في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، هامشا من التدافع يبينون فيه للناس أجمعين، أن المسلمين أو إن شئت الإسلاميين عندما فكروا ويفكرون في إعمار آخرتهم فهم لم يهملوا، بل لم يكن في حُسبانهم أن يهملوا أمور دنياهم، وإنّما منطقة الاختلاف والتضاد بين وجهة نظرهم وسبيل سعيهم وبين نظرة الحداثيين في هذا الخصوص، منبعها أننا نرى من وجهة نظر شرعية أن إعمار الأرض هو أمر تابع ولازم عن تحقيق مقام العبودية ونشدان الاستقامة الدينية التي دلت نصوص الوحي على أن تحقيقها مردوف ولابد بميلاد رخاء اقتصادي ووجود ازدهار مادي ورفه ورغد معيشي يجمع بين الانتفاع والانبهار إذ قال جل جلاله: “ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض” الأعراف 96 الآية.
وتلك حضارتنا التي لم تكن لياليها غائمة الرؤية لاهثة في لجام الشهوات، حضارة عملت مبكرا على بناء شخصية الساجد قبل تشييد المساجد، والطبيب قبل المستشفى، والمهندس قبل العمارة، والقاضي قبل المحكمة، والشرطي قبل المخفر، والمعلم قبل المدرسة، والأستاذ قبل الجامعة، والعامل قبل المعمل، والإنسان قبل العمران… فلم يأت عليها وصف الله يوما من أيام دهرها، كما وصف الذين لم يستعدوا للقائه طرفة عين وقد أخبر عن سيرتهم الأنعامية فقال سبحانه: “والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام”، تم تدرَّكَ بهم إلى ما دون الحياة البهيمية فقال جلّ جلاله: “لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون” الأعراف 179الآية
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97
الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
Source link