منذ حوالي ساعة
وكان نتاج ذلك خروج نخب مصرية تحمل أيديولوجيات بأسماء عربية وقلوب غربية، شكلت التيار الأيديولوجي اليساري في مصر، والذي كان يهدف إلى تغريب المجتمع المصري وفصله عن الثقافة الإسلامية
بدأت ملامح الصراع الأيديولوجي في مصر تبدو في أواخر حكم محمد على، حيث آلت السلطة في مصر له بعد صراع مرير بين كلا من: الفرنسيين، والشعب المصر، والمماليك، والعثمانيين، لكن محمد على استطاع الانفراد بحكم مصر من بين جميع المتصارعين، وبعد أن استتب له الحكم تطلع إلى الانطلاق بمصر نحو التقدم الحضاري، وقد رأي أن ذلك لن يتم إلا من خلال التعليم، ولكن التعليم آنذاك كان بعيدا عن الواقع المعاصر، فكان لابد من الانفتاح الثقافي على الغرب المتقدم حضاريا.
ورغم أن محمد على كان رجلا أميا إلا أنه كان يؤمن بأن تطلعاته للنهوض بمصر لن تتم من خلال النظام التربوى المصري القديم الذي يعتمد على تدريس بعض كتب التراث في بعض الأماكن القليلة جدا كالجامع الأزهر، وأن هذه التطلعات لابد لتحقيقها من الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا الشأن، ولكن الغريب في الأمر أن محمد على عمل على إلباس التجارب الغربية الثوب الإسلامي، فقد كان يحافظ على الأصول الثقافية الإسلامية للمجتمع المصري، كما يبدو من المراحل التي تتخذها:
المرحلة الأولى: إرسال البعثات العلمية.
أرسل البعثات العلمية إلى العواصم الغربية المتحضرة، وجعل على كل بعثة قائدا أزهريا يحفظ لباقي الأفراد دينهم ودنياهم.
المرحلة الثانية:
عمل على استقدام الخبراء من أوربا لإنشاء المدارس في مصر والتعليم فيها، واتفق معهم في البداية أن يكون هناك مترجم ينقل للطلاب بالعربية، ثم بعد شجعهم على تعلم العربية والتدريس بها.
ومن هذا المنطلق غرس محمد على بذور نهضة مصرية إسلامية حديثة، تراعي تغيير الفروع وتحافظ على الأصول التي لا تتأثر بتغير عاملي الزمان والمكان، وقد أثمر هذا الغرس عن تقدم ملحوظ في مصر في جميع المجالات، وظهور نخب إسلامية متحضرة أثرة الحياة آنذاك.
ولكن الغرب المتربص لم يكن ليترك مصر تتقدم، وجاء الاحتلال الإنجليزي إلى مصر بقضه وقضيضه؛ ليؤد هذه الصحوة العلمية الصافية، ويقيم مكانها ما يضمن انقطاع مصر عن أصولها الإسلامية وزعزعة هويتها، فكان أول قرار اتخذه الاحتلال هو إلغاء التعليم باللغة العربية وفرض التعليم باللغة الإنجليزية، وأسس المدارس التي وضع الاحتلال مناهجها وعين مدرسيها من المستشرقين والمستغربين؛ لتسهيل عملية الغزو الثقافي للنخب المصرية؛ لأن الاحتلال كان يدرك حتمية انتهاء الاحتلال وتطلع الشعوب للخلاص منه، ومن هنا عمل بكل جهده على تسريع وتيرة الغزو الثقافي من خلال التشجيع على التحاق أبناء النخب بالمدارس التي أقامها، وقد كان يوظف الخريجين في المناصب المرموقة بأجور مرتفعة وفي المقابل يتجاهل خريجو الأزهر وهم من أبناء العامة والفلاحين، ويوظفهم في أماكن غير مؤثرة وبأجور متدنية، هذا بالإضافة إلى دعم وتنظيم حملات التنصير والاستشراق.
وكان نتاج ذلك خروج نخب مصرية تحمل أيديولوجيات بأسماء عربية وقلوب غربية، شكلت التيار الأيديولوجي اليساري في مصر، والذي كان يهدف إلى تغريب المجتمع المصري وفصله عن الثقافة الإسلامية بالجملة في الظاهر والباطن.
وفي المقابل انتصب لهم تيار المحافظين من خريجو الأزهر الشريف ، والذي رفض الحضارة الغربية بإيجابياتها وسلبياتها، وركن هذا التيار إلى نظرية المؤامرة، وهي حقيقة، لكنها ليست مبرر للاستفادة من تجارب الآخرين، كما استفاد سلفنا من الفرس والروم.
ومن هنا بدأ الصراع الأيديولوجي في مصر ثم انتقل منها إلى أقاليم العالم الإسلامي، وظل هذا الصراع قائما حتى بعد طرد الإنجليز والاستقلال، وآلت السلطة في مصر وغيرها إلى الجيوش القومية، لكن السلطة آنذاك انحازت إلى اليساريين وروضت المحافظين الذين ليس لهم طموح في السلطة السياسية بينما نكلت بنخب الإسلام السياسي، وذلك للأسباب الآتية:
١- اليساريين لم يكن لهم طموح في انتزاع السلطة السياسية، بقدر ما كان اهتمامهم منصب على السلطة الفكرية، بالإضافة إلى النفوذ إلى مفاصل الدولة بفضل الإنجليز، كما يعود ذلك أيضا إلى الامتيازات التي منحها إياهم الإنجليز من الصحف وغيرها والتي جعلت الجماهير تنحاز إليهم آنذاك.
٢- عمل الإنجليز إلى تصدير صورة مشوهة عن هذا التيار إلى المجتمع من خلال الإعلام، كما رفضته السلطة القومية آنذاك؛ لأنه كان يتطلع إلى انتزاع السلطة.
وقد ظل الصراع الإيديولوجي بين النخب قائما إلى الآن، وقد اتخذ صورا عديدة من الصراع الفكري إلى الصراع الجسدي والعنف في بعض المراحل، فضلا عن التشويه والتشكيك في النوايا من كلا الطرفين، كل ذلك يتم وسط حالة من الاستقطاب الجماهيري، وتسخير مقدرات الأمة من أجل هذا الصراع البغيض.
ولو هذه النخب الأيديولوجية اجتمعت على مائدة الحوار واستحضرت وحدة المقاصد وهي خير المجتمع والنهوض به، لأمكنهم الاتفاق على الوسائل والآليات، لكن الصراع قد ولد تعصب أعمى، كما أن هناك أطراف أخرى تستفيد من تأجيج هذا الصراع، فضلا عن ضعف المستوى الثقافي في كثير من الأحيان.
ومع ذلك قامت صحوة تدعو للتجديد والقائم على الحوار والرافض للإقصاء وذلك في الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن هذه الحركة هي الأخرى لم تمتلك الوعي الكافي بحركة التاريخ، وأن التغيير إنما يبدأ من ما بالنفوس، والنفوس إنما تحوى أفكار ومعتقدات، وسبيل تغييرها لا يكون إلا من خلال التربية.
ومنذ ذلك الحين والصراع الإيديولوجي قائم رغم تفاوت شدته، وثمن هذا الصراع هو استمرار تخلف الأمة عن ركب الحضارة، وأهم خسائر هذا الصراع:
– استمرار الهيمنة الغربية على أمتنا ونهب ثرواتها، فإن العرب هو المستفيد من توازن القوى بين النخب الأيديولوجية.
– إهدار طاقات هذه النخب في صراع لا طائل منه والكل فيه خاسر، وعدم توجيه هذه الطاقات وجهتها الصحيحة.
ومازال هذا إلى الآن
Source link