فإنَّ مِنْ أفضل نِعَم الله على عباده، نعْمةَ العقل، فلولا العقل لما عرَف الإنسان دينَ الإسلام والنبوة، والخيرَ والشر، والحقَّ والباطل، والمعروفَ والمنكر…”
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمَّدًا عبْده ورسوله.
وبعدُ:
فإنَّ مِنْ أفضل نِعَم الله على عباده، نعْمةَ العقل، فلولا العقل لما عرَف الإنسان دينَ الإسلام والنبوة، والخيرَ والشر، والحقَّ والباطل، والمعروفَ والمنكر، قال – تعالى -: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، فالله – تعالى – فضَّل بني آدم على غيرِهم منَ الجمادات، والحيوانات، والنباتات بهذا العقْل.
قال – تعالى – مادحًا عبادَه أصحاب العقول السليمة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، قال ابن كثير: أي العقول التامة الزكية، التي تُدرك الأشياء بحقائقِها على جلياتها، وليسوا كالصمِّ البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 105- 106][1].
وقد ذمَّ الله – تعالى – أصحابَ العقول الغافلة عن دينه؛ فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].
وقال – تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
فإذا فَقَدَ الإنسان العقلَ السليم الذي يقوده إلى الخير، ويُبعده عن الشر، فقد أصبح كالبهيمة التي تأكل وتشرب ولا تعقل شيئًا؛ بل إنها خيْرٌ منه، كما في الآية الكريمة السابقة؛ روى الحاكم في “المستدرك”، من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافَها»[2]؛ أي: دنيئها وخسيسها.
قال ابن حبان: وإنَّ محبة المرء المكارم منَ الأخلاق وكراهته سفسافها، هو نفس العقل، فالعقل به يكون الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتمُّ دين أحد حتى يتم عقلُه، وهو من أفضل مواهب الله لعباده، وهو دواء القلوب، ومطية المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعُدَّته في وقوع النوائب، ومن عدم العقل لم يزدْه السلطان عزًّا، ولا المال يرفعه قدرًا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذَّة دُنياه[3]. اهـ.
قال الشاعر:
وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ *** فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ
إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَـهُ *** فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمَآرِبُـــــــــــهْ
وقال الشاعر:
لَيْسَ الجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا *** إِنَّ الجَمَالَ جَمَالُ العَقْلِ وَالأَدَبِ
العقل: اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء في أول درجاته يسمَّى أديبًا، ثم أريبًا، ثم لبيبًا، ثم عاقلاً[4]، قال ابن كثير في تفسير قوله – تعالى -: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]: أي: تناهى عقله، وكمل فهمُه وحلمه، ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين[5].
قال ابن حزم: وحدُّ العقل ينطوي فيه فعل الطاعات والفضائل، واجتناب المعاصي والرذائل، وقد نصَّ الله – تعالى – في كتابه على أن مَن عصاه لا يعقل، قال – تعالى -: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وحد الحُمْق: استعمال المعاصي والرذائل، وهو ضد العقل، ولا واسطة بين الحمق والعقل إلا السخف[6]. اهـ.
قيل لابن المبارك: ما خير ما أُعطي الرجل؟ قال: غريزة عقل، قيل: فإن لَم يكن؟ قال: أدب حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجِل[7].
والناس يُحبون الرجل الذي جمع بين الصَّلاح ورجحان العقل، ونبيُّنا محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم – أرجحُ الناس عقلاً، ففي الجاهلية لَم يسجدْ لصنمٍ قط، مع كثْرتها وتعلُّق الناس بها؛ لعلمه أن هذه الأصنام جمادات لا تضرُّ ولا تنفع، وكانتْ قريش تُودع أموالها عنده، ويستشيرونه في أمورهم؛ لرُجحان عقله، وسداد رأيه، وكان يعتزلُ الناس، ويتعبَّد في غار حراء يسأل ربه الهداية.
وفي “صحيح البخاري“: أن أبا بكر قال لزيد بن ثابت: إنك رجل شابٌّ عاقل، لا نتَّهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتتبَّعِ القرآن فاجمعه، قال زيد: فوالله لو كلَّفوني نقل جبل منَ الجبال، ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن[8].
وحُكي أن جماعة منَ النصارى تحدَّثوا فيما بينهم، فقال قائل منهم: ما أقل عقول المسلمين، يزعمون أن نبيَّهم كان راعيًا للغنم، فكيف يصلح راعي الغنم للنبوَّة؟! فقال له آخر من بينهم: أما هم، فوالله أعقل منَّا؛ فإن الله بحكمته يسترعي النبي الحيوان البهيم، فإذا أحسن رعايته والقيام عليه، نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق؛ حكمة من الله وتدريجًا لعبده، ولكن نحن جئنا إلى مولود خرج من امرأة، يأكُل ويشرب، ويبول ويبكي، فقلنا: هذا إلهنا الذي خلق السموات والأرض، فأمسك القوم عنه[9].
هناك بعض التنْبيهات:
أولاً: أن محل العقل القلبُ، وهو صريح قولِ الله – تعالى -: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، قال الشيخ محمد الشنقيطي – رحمه الله -: ومن الخطأ قول الفلاسفة: إنَّ محل العقل الدماغ، وقد تبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمين، وعامةُ علماء المسلمين أن محل العقل القلب، فمن ذلك قوله – تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، فعابهم الله بأنهم لا يفقهون، والفِقه – الذي هو الفهْم – لا يكون إلا بالعقل، فدلَّ على أن محلَّ العقْل القلب، وقال – تعالى -: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
وفي الصحيحَيْن من حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما -: «ألا وإن في الجسد مُضغة، إذا صلَحتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب»[10]، فإذا آمن القلْبُ، آمنت الجوارح بفِعْل المأمورات وترْك المنهيَّات؛ لأنَّ القلب أمير البَدَن، وذلك يدلُّ دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك، إلا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفَهْم[11].
ثانيًا: ليس كل مَن ادَّعى العقل يُعتبر عاقلاً، فقد يدَّعيه مَنْ هو سفيه أو أحمق، فالعاقل – كما تقدَّم – مَنْ ترفَّع عن السفاهات والمعاصي وخوارم المروءة كلها، وسَمَا بنفسه إلى الطاعات ومكارم الأخلاق.
قال ابن حبان – بعدما ذكر أقوال العلماء في تعريف المروءة -: والمروءة عندي خصلتان: اجتناب ما يكره الله والمسلمون من الفعال، واستعمال ما يحب الله والمسلمون من الخصال، واستعمالهما هو العقل نفسه، وقد ورد في الأثر: إن مروءة المرْء عقلُه[12].
ثالثًا: قد يكون الإنسان ذكيًّا، ولكنه ليس بعاقل؛ فالذكاء: هو سرعة البديهة والفهم، والعقل: ما حجز الإنسان عنْ فعل ما لا ينبغي.
رابعًا: العقل نوعان، قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: العقل هو مناط التكليف، وهو إدراك الأشياء وفهْمها، وهو الذي تكلَّم عليه الفقهاء في العبادات والمعاملات وغيرها.
وعقل الرشد: وهو أن يحسن الإنسان التصرُّف، وسمِّي إحسان التصرُّف عقلاً؛ لأنَّ الإنسان عقل تصرفه بما ينفعه[13].
قال – تعالى -: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]، وقال – تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، أفلا يكون لكم عقول تدركون بها خطأكم وضلالكم؟!
خامسًا: قد يُعطى الإنسان القوة والذكاء والعقل، ولكن لا يوفَّق للهداية، وأمثلة هذا كثيرة، فأصحابُ المخترعات العظيمة؛ كالكهرباء، والطائرات، والقنابل النووية، وغيرها، كثيرٌ منهم من غير المسلمين؛ كاليهود والنصارى والملاحدة؛ بل ذكر الله عن قوم عاد أنهم كانوا أصحاب قوة وذكاء، بنوا حضارةً من أحسن الحضارات، قال – تعالى – عنها: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 – 8]، لكنهم لما جحدوا بآيات الله ما نفعتْهم عقولُهم ولا قوَّتهم؛ بل صارت وبالاً عليهم، قال – تعالى -: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحْبه أجْمعين.
[1] “تفسير ابن كثير” (3/295). [2] (1/64)، وصححه الألباني – رحمه الله – في “صحيح الجامع الصغير” (1/384)، برقم 1889. [3] “روضة العقلاء ونزهة الفضلاء”، ص 16 – 19، باختصار. [4] “روضه العقلاء”؛ لابن حبان، ص 16. [5] “تفسير ابن كثير” ( 13/15). [6] “الأخلاق والسِّيَر في مداواة النفوس” ص 65 – 66 بتصرف. [7] “روضة العقلاء”، ص 17. [8] قطعة من حديث ص 992، برقم 4986. [9] “جامع الآداب”؛ لابن القيم (1/218) من كلام ابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد. [10] ص 34، برقم 52، و”صحيح مسلم” ص 651، برقم 1599. [11] “الرحلة إلى إفريقيا”، ص 25 – 29 باختصار. [12] “روضة العقلاء ونزهة الفضلاء”، ص232. [13] “تفسير سورة البقرة” (1/158)؛ للشيخ ابن عثيمين
____________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
Source link