شاع لدى عدد من المؤرخين المعاصرين، عربًا وغير عرب، أن غزوات أمراء الأندلس كالسمح بن مالك الخولاني (100-102هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (103-107ه)، وعبدالرحمن الغافقي (112-114ه)، وعقبة بن الحجاج السلولي (117- 123هـ) وغيرهم لفتح بلاد ما وراء جبال البرتات، والتي كانت تسمى غالة أو بلاد الفرنجة (فرنسا حاليًا) كانت مغامرات عسكرية غير محسوبة العواقب، ولم تصدر عن برنامج مرسوم، وخطة منظمة، كغزوات الفتح السابقة، ولذلك، كما يقولون، كانت جهود المسلمين في هذه الغزوات قليلة الجدوى، وكانت أغلبها تنتهي بانتكاسة شديدة، وباستشهاد قادتها وكثير من الذين معهم. ويرى المعتدلون ومنهم إبراهيم بيضون في كتابه (تاريخ الدولة العربية في إسبانية) أن أدق وصف يمكن أن توصف به هذه الغزوات، هو أنها كانت أقرب إلى محاولات الفتح منها إلى الفتح المنظم.
ومن أكثر المؤرخين العرب تحاملا على هذه الغزوات، بحسب اطلاعي، هو عبدالمجيد نعنعي، في كتابه (تاريخ الدولة الأموية بالأندلس) فهو يقول: أكثر حملات المسلمين في بلاد غالة غلب عليها طابع المغامرة العسكرية، واتصفت بالاندفاع الصوفي وتهور الفروسية أكثر مما ارتكزت إلى استعدادات عسكرية وإمكانات مادية فعلية. وهذا، كما يقول، ما يفسر لنا كون أكثر هذه الحملات انتهت بتحقيق نتائج جزئية وفي أحيان كثيرة باستشهاد جل قادتها وخسارة ما لا يحصى من جنود المسلمين”. مشيرًا إلى أن “هذا الاندفاع وراء الفتوحات” “ما كان دائمًا عقلانيًا ومرتكزًا إلى حقائق عسكرية ثابتة”.
لعلنا لو قارنا السمح والغافقي وعقبة بن الحجاج بغيرهم من رجال الفتوح الإسلامية الأخرى لتبينا أن فتوح غالة كانت من أمجد الجهود الإسلامية الحربية، وأن تضحياتهم في سبيلها أغلى ما ضحوا به في فتوحهم (وأنها) لا تقل روعة عن تضحياتهم لفتح الأندلس نفسه
وقد دافع المؤرخ والخبير العسكري محمود شيت خطاب في كتابه (قادة فتح الأندلس-2) دفاعًا طويلاً عن السمح بن مالك الخولاني رائد هذه الغزوات وقراره بخوض معركة طولوشة، فقال: “مفتاح المزايا القيادية لشخصية السمح، أنه كان أحد المجاهدين الصادقين، الذين كانوا يتمنون أن يهبهم الله الشهادة لتكون خاتمة أعمالهم، فوهب روحه رخيصة في سبيل الله، لا فرق لديه أن يقع على الموت أو يقع الموت عليه، مادام ذلك لإعلاء كلمة الله، ونشر الإسلام، والنهوض بفريضة الجهاد لضمان حاضر الفتح الإسلامي، ومستقبلة.. وحين وجد أن الفرنج متفوقون على قواته عددًا قبل المواجهة، ولم يتملص منها لاستكمال استعداداته، ثم مواجهتهم، بعد ذلك، لضمان النصر عليهم، ومن ثم، استئناف الفتح في فرنسة. وخطة الانسحاب قبل المعركة، لا يجهلها السمح، ولكنه لم يطبقها، لأن المسلمين، يومذاك، لم يكونوا ينتصرون بعددهم، فقد كان العدو، غالبًا، هو المتفوق عددًا، ولكن المسلمين، كانوا ينتصرون بإيمانهم العميق، الذي يدفعهم، إلى الاستقتال طلبا للشهادة، فتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله، وانتصار المسلمين انتصار عقيدة، بلا مراء.. وكان السمح أحد قادة الفتح الذي كان حافزه الأول والأخير، إيمانه الراسخ، وحرصه على خدمة الإسلام، ورغبته في الشهادة، فليس من العدل أن نحاسبه بالمقاييس المادية الشائعة في العسكرية الحديثة، والسمح عاش في قرن كانت المقاييس المادية ثانوية بالنسبة للمقاييس المعنوية، وهو القرن الأول الهجري، يوم كان الإسلام في مده العارم، يكتسح كل شيء، ولا يقف أمامه شيء. ليس عدلا أن نقول: مادام السمح قد علم بحشود الفرنج المتفوقة، فكان عليه أن ينسحب إلى منطقة إسلامية آمنة، ليكمل استعداداته للقتال، ثم يستأنف الفتح، ويكون احتمال انتصاره حينئذ، على الفرنج كبيرًا. فقد كان بواد، والمادة بواد آخر. ولو كان للناحية المادية اعتبار، كالذي لها اليوم، في غياب العقيدة الراسخة، لما كان فتح إسلامي، ولما أصبح ذلك الفتح مستدامًا، لأنه ليس فتح سيف، فحسب، بل فتح عقيدة قبل ذلك.. إن المقاييس المادية كانت غائبة في أيام الفتح، وكانت المقاييس الروحية هي السائدة، وعلى هذا الأساس، يمكن محاسبة السمح. وإدراك السمح أن الفرنج متفوقون عليه، دون أن تتزعزع معنوياته، دليل على أنه كان قائدًا بصيرًا بالأمور، فلم يؤت من قبل غفلته، بل أتي من قبل حرصه وحرص رجاله على الشهادة. لقد كان السمح من القادة القادرين على إصدار القرار الصحيح السريع، وقراره في مواجهة الفرنج المتفوقين على المسلمين، بالنسبة للتفكير السائد في حينه، كان قرارًا صحيحًا، أما بالنسبة للتفكير السائد اليوم، فقد كان قرارًا غير صحيح، ولا بد من الرجوع إلى الفكر السائد، في حينه، للحكم على صحة قرار السمح أو عدم صحته”.
ويقول حسين مؤنس في كتابه (فجر الأندلس): ولا ينبغي أن نظن أن المسلمين لم يفكروا في غزوا غالة “فرنسا” غزوا مستمرا والاستقرار فيها، لأن الواقع أن نفوسهم تطلعت إلى فتحها فتحا ثابتا من أول الأمر، ولا يسعنا ونحن نتأمل جهود الحر بن عبدالرحمن والسمح بن مالك، وعنبسة بن سحيم وعبدالرحمن الغافقي وعبد الملك بن قطن إلا أن نقرر أن هؤلاء القواد المقتدرين كانوا يشعرون أنهم يقومون بفتح منظم غايته إدخال البلاد في رحاب الدولة الإسلامية، لا مجرد القيام بغارات سريعة لا هدف لها بعد الغنيمة، كما يفهم من كلام بعض المؤرخين المحدثين. بل لعلنا لو قارنا السمح والغافقي وعقبة بن الحجاج بغيرهم من رجال الفتوح الإسلامية الأخرى لتبينا أن فتوح غالة كانت من أمجد الجهود الإسلامية الحربية، وأن تضحياتهم في سبيلها أغلى ما ضحوا به في فتوحهم (وأنها) لا تقل روعة عن تضحياتهم لفتح الأندلس نفسه. ولا نزاع في أن السمح والغافقي وعقبة يعدون جميعا في طليعة قادة المسلمين العظام، ولا نزاع كذلك في أن المسلمين ضحوا في سبيل غالة أكثر مما ضحوا في سبيل مصر مثلاً، وأن من استشهد من المسلمين في نواحي غالة كانوا جديرين بفتحها، لو لم يكن الأندلس نفسه مضطربًا هذا الاضطراب.
ويقول عبدالرحمن الحجي في كتابه (التاريخ الأندلسي): “استمرت موجة المد الإسلامي.. في عهد الولاة، الذي ابتدأ بولاية عبدالعزيز بن موسى، وكان لها نشاط وافر، وبخاصة، وراء جبال البرت. ولانتقال الجهاد وراء جبال البرت مدلول. لعله تعبير عن قوة الدفع وجلالة المد التي زادت عن متطلبات الوجود الإسلامي بالأندلس وقتها، فنقلت النشاط من ميدانه أمام البرت إلى ما خلفه في الأرض الكبيرة”.
ويعتبر الحجي قصة الغنائم، التي قيل بأنها كانت السبب في هزيمة المسلمين في معركة البلاط في رمضان 114هـ: “أسطورة لا أصل لها. وهذا، كما يقول، مع مجانبته لكل ما عرفناه عن الفتح الإسلامي والتمسك بأهدافه العليا القائمة على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته والخطط المحكمة المتبعة فيه، ولما ألفناه من الفاتحين في فرنسا”. وهو ينفي نفيًا قاطعًا، أن يحمل الجيش الإسلامي تلك الغنائم الثقيلة المعوقة معه ويقطع بها كل تلك المسافة، إلى أرض المعركة، كما تزعم الرواية النصرانية، كون هذا: أمر لم نألفه منه في حملاته السابقة في الأرض الكبيرة” لاسيما: “وهو يعلم مقدمًا أنه ذاهب للقاء حاسم يبتغي فيه نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في تلك البقاع”. وهذا إن صح أنه كان هناك غنائم، لأن المناطق التي مر بها الجيش الإسلامي كانت مناطق فقيرة الثروة وأهلها معدمون تقريبًا..
Source link