هذا هو القعقاع القائد الذي يفرض قيادته بسلوكه، وحُسن تصرُّفه، وحِرْصه على الإبقاء على معنويَّات الجنود عالية تطاول عنانَ السماء.
وينتقل القعقاع بصُحْبة خالد بن الوليد إلى الشام لحرب الروم، وفي اليرموك كان اللقاء الأوَّل، وكالعادة كان القعقاع في قلب الجيش بجوار خالد الذي كان قد أعادَ تنظيمَ الجيش، وجعَلَ القيادة بالتناوب بينه وبين باقي القادة، وتولَّى هو القيادة في اليوم الأول، والذي انتهى بانتصار كاسحٍ للمسلمين على الروم.
وينتقل الصِّدِّيق إلى جوار ربِّه، ويتولَّى الفاروق عمر بن الخطَّاب الخلافة، فيكون أوَّل قرارٍ له عزْل خالد بن الوليد وتوْلِية أبي عبيدة عامر بن الجرَّاح على قيادة جيوش المسلمين، في حين يظلُّ خالد قائدًا على الجيش الذي قَدِم به من العراق.
ثم تتحرَّك جيوش المسلمين؛ لفتح “دمشق” التي تحصَّنتْ حاميتُها داخل أسوارها المنيعة، وتقف الجيوش الإسلامية عاجزةً عن اقتحام “دمشق”، حتى تفتَّقَ ذِهْنُ القعقاع عن حلٍّ جريء، وهو أن تتولَّى مجموعة من المسلمين تسلُّقَ الأسوار وفتْحَ أبوابها من الداخل، ويوافق خالد بن الوليد على هذه العمليَّة الجريئة غير المسبوقة، بل ويقوم بالتنفيذ خالد بن الوليد نفسُه ومعه القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عَدي العجلي، وأمثالهم من الأبطال الأشدَّاء، وكانت التعليمات لسائر الجيش: “إذا سمعتُم تكبيرَنا على السور فارْقَوا إلينا، وانهدوا للباب”.
ويُعْبرُ الأبطال الخندق المحيط بالسور والمغمور بالمياه سباحةً، ويقذفوا بـ(أوهاق)[1] الحبال حتى اشْتَبَك منها وهقان بأعلى السور وثَبَتا فيه، فتسلَّق عليهما القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، ومعهما باقي سلالم الحبال، فأثبتاها جميعًا بأعلى السور، وكان هذا المكان الذي اقتحموا منه أحصنَ موقعٍ بدمشق كلِّها؛ أكثره ماءً، وأعرضه خندقًا، وأشده مدخلاً، ويعتلي خالد بن الوليد السور مع باقي رجاله، ليكبِّروا جميعًا بصوت رجلٍ واحد؛ ليعبرَ باقي جيش خالد الخندقَ، ويتدافعون نحو سلالم الحبال يتسلَّقونها، ويتكاثرون حول باب الحِصْن الشرقي الذي نَجَحَ خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو في فتْحِه بعد قتال مرير، فلم يجدْ أهلُ “دمشق” بُدًّا من الاستسلام وطلبِ الصُّلْح.
وفي ذات الوقت كانتْ جيوش المسلمين في العراق بقيادة سعد بن أبي وقَّاص تواجِه جحافل الفرس، وكان موقف تلك الجيوش شديد الحَرَج، فكتبَ عمر إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح بعد أنْ أتمَّ فتحَ “دمشق” يأمرُه بصرفِ جيش العراق أصحابِ خالد إلى العراق، ولم يذكرْ خالدًا، فاستبقاه أبو عبيدة معه بالشام؛ ليكون عونًا له على حرب الروم، وأرْسَلَ جيش العراق تنفيذًا لتعليمات الخليفة، وأمَّرَ عليهم هاشم بن عُتبة بن أبي وقَّاص، وعلى المقدِّمة القعقاع بن عمرو التميمي.
وأسرع القعقاع بالمقدِّمة، فسبَقَ أصحابَه، وطوى المسافة مُسرعًا، فبلغ القادسيَّة يوم “أغواث”، وقبْلَ دخوله القادسية، قسَّم القعقاع أصحابَه – وكانوا ألف مقاتل – إلى عشرات؛ أي: مائة عشرة، كلَّما بلغ عشرة منهم مَدَّ البصر، سارت في إثرهم عشرة أخرى.
قصد القعقاع من هذا العمل أنْ يرفعَ الرُّوح المعنويَّة لجيش القادسية؛ عن طريق إشعارهم بتتابُع الإمدادات؛ حيث كان القعقاع يحرِصُ دائمًا على رفْع الرُّوح المعنويَّة؛ لعِلْمه بمَدَى أثر الرُّوح المعنويَّة على أداء الجنود في المعركة، وكان القعقاع في أول دفعة، فأتى الناس في القادسية، وسلَّم عليهم وبشَّرهم بالمدد، وقال لهم: “أيها الناس، إني قد جئتُكم بقوم والله أنْ لو كانوا بمكانكم ثم أحسوكم حسدوكم حظوتها، وحاوَلوا أنْ يطيروا بها دونَكم، أيها الناس، اصنعوا كما أصنعُ”.
وتقدَّم القعقاع يشقُّ طريقَه بين جيوش المسلمين، حتى تقدَّمَ الصفوف كلَّها، ووقفَ في مواجهة جيوش الفرس مناديًا: “مَن يبارز؟”.
مَن يصدِّق هذا؟! يأتي من سفرٍ بعيد من الشام، قادمًا مِن معركة مريرة؛ ليقف في مواجهة جيوش الفرس يطلبُ المبارزة دون أن ينالَ أيَّ قسطٍ من الراحة.
ويشتعلُ حماسُ المسلمين، وتبلغ معنويَّاتهم عنانَ السماء مِن جرَّاء وجود هذا الرجل الذي قال عنه الصِّدِّيق: “لا يُهْزَم جيشٌ فيهم مثلُ هذا”.
ويخرج من بين صفوف الفرس “بهمن جاذويه”؛ ليبارزَ القعقاع الذي يبتدره بالسؤال: “مَن أنت؟”، فقال: “أنا بهمن جاوذيه”، فثار الدمُ في عروق القعقاع؛ إذ تذكَّر معركة “الجسر” وشهداءَها، وما فعله “بهمن جاوذيه” في ذلك اليوم، فصاح: “يا لثارات أبي عبيد وسليط، وأصحاب يوم الجسر”.
ثم تبارزا بالسيوف، فقتلَه القعقاع، وكان “بهمن جاذويه” هو قائد قلب جيش الفُرْس.
وكان القعقاع يرمِي ببصره نحو الطريق الذي يسلكه جنودُه متتابعين، وجعَلَ يكبِّر كلَّما ظهرتْ عشرة منهم والمسلمون يكبِّرون وراءَه.
ارتفعت المعنويَّات كثيرًا؛ فالمدَدُ يتتابَعُ و”بهمن جاوذيه” قُتِل، والقعقاع يُلْهِبُ حماسَ الجنود، فكانتْ – بحقٍّ – أغواثَ النصر، ومن جديد خَرَجَ القعقاع ينادي: “هل مِن مبارز؟”.
وأراد قادة الفُرْس أن يستردوا معنويَّاتهم، وأن يثْأَروا “لبهمن جاذويه” الذي كانتْ جُثَّتُه مُلْقَاة بين الصفَّين تنظرُ إليها جموعُ الفُرْس في حَسرة والمسلمون في فخْرٍ وعِزَّة.
خرَجَ اثنان من قادة الفُرْس؛ هما: (بيرزان) قائد المؤخِّرة، و(بندوان)، فانضمَّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، فأمَّا القعقاع، فقد أطاحَ برأْس (بيزران)، وفَعَلَ الحارث مع “بندوان” نفْسَ الفِعْل.
ثم برزتْ فرسان المسلمين للمبارزة، فكان القعقاع يقول لهم: “يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف؛ فإنَّما يُحْصَد الناسُ بها”.
ذكاء مقاتل:
ورأى القعقاع عجْزَ المسلمين عن مواجهة (فِيَلة) الفُرْس التي أفزعتْ خيلَ المسلمين، فجعلتْها تنفرُ وترتدُّ بِمَن عليها من الفرسان، فعَمَدَ القعقاع إلى إبل المسلمين، فألْبَسها الجلودَ والبراقع، فتغيَّرتْ هيئة الإبل وصارتْ مُفْزِعة، فنفرتْ من مواجهتها خيلُ الفرس، وولَّتْ هاربةً بفرسانها، تاركة مُشاة جيوش الفرس وحدَهم في الْمَيدان، فحصدهم فرسانُ المسلمين حصْدًا.
وفي المدينة عَلِم عمر بأمْر يوم “أغواث” وبلاء المسلمين فيه، فبَعَثَ أربعة أسياف، وأربعة أفراس هَديَّة يقسِّمها قائدُ الجيش سعد بن أبي وقَّاص بين مَن أبْلَى أحسنَ البلاء، فينال منها القعقاعُ فَرَسًا.
ثم يأتي يوم “عماس” 15 من شعبان لعام 15 هـ، ليشهد عملاً إستراتيجيًّا جديدًا للقعقاع الذي رأى التعبَ والإنهاك قد حلَّ بجيوش المسلمين، وتسرَّب إليهم اليأسُ مِن تأخُّر وصول جيش هاشم بن عُتبة بن أبي وقَّاص، فانتحى القعقاع بجنوده الألف، وأخرجهم سرًّا من معسكر جيش المسلمين، وقسَّمهم إلى عشر مجموعات، كل مجموعة مائة جندي، وقال لهم: “إذا طلعَتِ الشمس، فأقبلوا مائة مائة، كلما توارَى عنكم مائة فليَتْبَعها مائة، فإنْ جاء هاشم فذاك، وإلا جدَّدتُهم للناس رجاءً وجدًّا”.
هذا هو القعقاع القائد الذي يفرض قيادته بسلوكه، وحُسن تصرُّفه، وحِرْصه على الإبقاء على معنويَّات الجنود عالية تطاول عنانَ السماء.
وقفَ القعقاع ينظرُ ويتطلَّع نحو الطريق، مُلْقِيًا في رَوع المسلمين أنَّه يتوقَّعَ هاشمًا وأصحابَه، وجعَلَ يكبِّر كلما ظهرتْ في الأُفق نواصي الخيل التي أقبلتْ مائة في إثر مائة، ومثله فعَلَ أخوه عاصم بن عمرو، فانتعشَ المسلمون واصطفَّتْ جموعُهم للقتال، واقتربَ هاشم من معسكر المسلمين في سبعمائة من طلائع جيشه، فأخبره المسلمون بما فعَلَ القعقاع، فأعادَ هاشم تعبئة جنوده سبعين سبعين؛ لتتلاحق جماعة في إثر جماعة.
أمَّا المعركة، فقد حَمِي وطيسُها، ودفَعَ الفُرْس بأفيالهم، فتضعضعتْ في مواجهتها صفوفُ المسلمين، فأرسَلَ سعد بن أبي وقَّاص إلى القعقاع وعاصم يقول لهما: “اكفياني الفيل الأبيض”، وكان أكبرَ أفيال الفُرْس مع فيلٍ آخرَ يُسَمَّى: “الأجرب”.
فأخَذَ القعقاع وعاصم رُمحين أصمَّين ليِّنَيْن، ودبَّا في كتيبة من خيلٍ ومُشاة، وقالا لهم: “اكتنفوه لتحيِّروه” وهما معهم، فأطافوا به وخالطوا حُرَّاسه والْتحموا معهم، وظلَّ الفيلُ متحيِّرًا ينظرُ يَمنة ويَسرة وهو مُتحيِّر، فحمَلَ القعقاع وعاصم على الفيل وهو متشاغل بِمَن حولَه فوضعا رُمْحَيهما معًا في عينيه، فجلس الفيل على يديه ورِجْليه، وألْقَى بمن فوقَه من جنود الفُرْس، فاستلَّ القعقاع سيفَه وقطعَ خرطوم الفيل، فسقَطَ صريعًا، فكبَّر المسلمون وهلَّلوا واستبشروا بالنصر، وحملتْ جماعة أخرى على الفيل الأجرب فقتلتْه.
وتتابَعَتْ أيام القادسية ولياليها حتى كانتْ ليلة “الهرير” والفريقان وقوفٌ كلٌّ في مواجهة الآخَر، فأتى من جهة الفُرْس سهمٌ فأصابَ خالد بن يَعْمُر التميمي، وكان القعقاع يتشوَّق للقتال، فأثارته إصابة خالد، فزحَفَ ببني تميم بغير إذن سعد، وعَلِمَ سعد، فدعا الله وقال: “اللهم اغْفرها له وانْصُره، قد أذِنْتُ له إذْ لم يستأذنِّي، واتميماه سائر الليلة”، وأقرَّ سعد أمام الناس ما فعَلَ القعقاع وقال: “إنَّ الأمر الذي صنَعَ القعقاع، فإذا كبَّرتُ ثلاثًا فازحفوا”، وخَلْفَ القعقاع اندفعتْ “كِنْدة، والنخع، وأسد”، فدعا لهم سعد بمثْل ما دعا للقعقاع، فكان قتالاً لم يشهد المسلمون مثْلَه.
وفي 16 من شعبان 15 هـ كان اليوم المشهود، يوم القادسيَّة، في هذا اليوم سارَ القعقاع بين جموع المسلمين يشدُّ أزرَهم، وكان يدرك أنَّ المعركة الفاصلة قد حانَ أوانُها، فقال مخاطبًا جيوش المسلمين: “إنَّ الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم بالتخاذُل؛ فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإنَّ النصرَ مع الصبر، فآثروا الصبرَ على الجزع”، وأنشد يقول:
يَدْعُونَ قعْقَاعًا لِكُلِّ كَرِيهَةٍ
فَيُجِيبُ قعْقَاعٌ دُعَاءَ الْهَاتِفِ
والْتحم الفريقان التحامًا رهيبًا، وهجَمَ القعقاعُ مع قومه بني تميم على قلب جيش “رستم” فأزالوهم عن مواقعهم، حتى انتهوا إلى سَرير “رستم” وكان قد غادَرَه مذعورًا، ليتلقَّاه هلال بن علفة التميمي، فيرديه قتيلاً ويصيحُ: “قتلتُ رُسْتُم وربِّ الكعبة”.
[1] خطاف الحبْل.
________________________________________________
الكاتب: أحمد السيد تقي الدين
Source link