لا شك أن حب النبي صلى الله عليه وسلم واتِّباعه وتقديره واحترامه وتعظيمه وتفخيمه دينٌ متبعٌ وعملٌ يقتفى به أثر الصحابة الكرام معادن التقوى وينبوع الصفا…
لا شك أن حب النبي صلى الله عليه وسلم واتِّباعه وتقديره واحترامه وتعظيمه وتفخيمه دينٌ متبعٌ وعملٌ يقتفى به أثر الصحابة الكرام معادن التقوى وينبوع الصفا، فالصحابة الكرام تاج سلف الأمة، وأخصُّ منهم بدايةً واسطةَ العقد أبَ بكر الصديق، فعن سهل بن سعد الساعدي: كانَ قِتَالٌ بيْنَ بَنِي عَمْرٍو، فَبَلَغَ ذلكَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أتَاهُمْ يُصْلِحُ بيْنَهُمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلَاةُ العَصْرِ، فأذَّنَ بلَالٌ وأَقَامَ، وأَمَرَ أبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ، وجَاءَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبُو بَكْرٍ في الصَّلَاةِ، فَشَقَّ النَّاسَ حتَّى قَامَ خَلْفَ أبِي بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ في الصَّفِّ الذي يَلِيهِ، قالَ: وصَفَّحَ القَوْمُ، وكانَ أبو بَكْرٍ إذَا دَخَلَ في الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ حتَّى يَفْرُغَ، فَلَمَّا رَأَى التَّصْفِيحَ لا يُمْسَكُ عليه التَفَتَ، فَرَأَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَلْفَهُ، فأوْمَأَ إلَيْهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدِهِ، أنِ امْضِهْ، وأَوْمَأَ بيَدِهِ هَكَذَا، ولَبِثَ أبو بَكْرٍ هُنَيَّةً يَحْمَدُ اللَّهَ علَى قَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ مَشَى القَهْقَرَى، فَلَمَّا رَأَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلكَ تَقَدَّمَ، فَصَلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنَّاسِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قالَ: «يا أبَا بَكْرٍ، ما مَنَعَكَ إذْ أوْمَأْتُ إلَيْكَ أنْ لا تَكُونَ مَضَيْتَ»؟ قالَ: لَمْ يَكُنْ لِابْنِ أبِي قُحَافَةَ أنْ يَؤُمَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ[1].
على عمق الشرف ومكانة أبي بكر الصديق إلا أن قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومهابته أنْسَتْهُ نفسَه فأخذ يصغرها (بابن أبي قحافة) لكي لا تشعر لا من قريب ولا من بعيد بعلوٍّ أمام مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لا يرفعون أصواتهم عليه:
ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار ومقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم عند تنافس الخطباء، وكان من طبعه وما يقتضيه فصاحة الخطيب رفع الصوت عند الأداء، ففي حديث أنس بن مالك قال: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى آخِرِ الآيَةِ، جَلَسَ ثابِتُ بنُ قَيْسٍ في بَيْتِهِ، وقالَ: أنا مِن أهْلِ النَّارِ، واحْتَبَسَ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سَعْدَ بنَ مُعاذٍ، فقالَ: «يا أبا عَمْرٍو، ما شَأْنُ ثابِتٍ؟ اشْتَكَى؟» قالَ سَعْدٌ: إنَّه لَجارِي، وما عَلِمْتُ له بشَكْوَى، قالَ: فأتاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ له قَوْلَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ ثابِتٌ: أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ، ولقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي مِن أرْفَعِكُمْ صَوْتًا علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأنا مِن أهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذلكَ سَعْدٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «بَلْ هو مِن أهْلِ الجَنَّةِ» [2].
وقف مع الآية وقفة الخائف الوجل، وظن أنه من أهلها، وأن عمله قد حبط، فاحتبس عن مجلس رسول الله حتى لا يزيد في أذيته، ويبقي على مهابته ومحبته، فعظمت كل هذا المعاني عند الله فبَشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
حسن الظن به:
وفي ساحة الفاروق نتأمل هذه الحادثة التي تعبِّر عن عميق حب الفاروق ودقة تصرفه أمام مقامه وهيبته صلى الله عليه وسلم.
في حديث أبي هريرة: بيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذْ قَالَ: «بيْنَا أنا نائِمٌ رَأَيْتُنِي في الجَنَّةِ، فإذا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إلى جانِبِ قَصْرٍ، فَقُلتُ: لِمَن هذا»؟ قالوا: هذا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَبَكَى عُمَرُ وهو في المَجْلِسِ، ثُمَّ قالَ: أوَعَلَيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ أغارُ؟[3].
دهش عمر فلم يستطع أن يعبر إلا بالدموع التي تحمل معاني ثلاثًا:
1ـ الفرحة بالبُشْرى.
2ـ والأدب أن يتطرق لقلب عمر سوء ظن بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا نفاه بقوله: أوَعَلَيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ أغارُ؟!.
3ـ والاستصغار لنفسه وعمله أمام كرم الله وجوده.
الحياء من مواجهته بما يكره:
• وقد بلغ بالصحابة الأبرار والجيل المختار أنهم لا يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتمل الكراهة؛ بل كانوا على حياء وأدب جم، هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنتُ رجلًا مَذَّاءً، فأمَرتُ رجلًا أن يَسأَلَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لمكانِ ابنتِه، فسأَل، فقال: «توضَّأْ واغسِلْ ذكَرَك» [4].
• والمذي غالبًا يأتي من ملاعبة الزوجين فاستحى عليٌّ أدبًا وحياء أن يبادر بهذا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر المقداد بن الأسود أن يسأل، فالحياء من الإيمان وفي مقام الرسول صلى الله عليه وسلم من كمال الإيمان فمراعاة مشاعر أهل الفضل من القرب إلى الله، وهي من وسائل المزيد من علمهم وفضلهم.
• مات صلى الله عليه وسلم جسدًا، وبقيت سنته ومكانته وفضله، فليزمنا محبةً واتِّباعًا وقربةً إلى الله أمور تشبه أفعال السلف الصالح تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم.
أولًا: أبو بكر لم يتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإمامة، فيلزمنا اتباعًا ألا نتقدم بقول أو عمل على سنته صلى الله عليه وسلم، ويسقط كل قول خالف المنهج النبوي.
ثانيًا: كان الصحابة حتى بعد موت رسول الله يتقون رفع الصوت في مسجده، يقول السائب بن يزيد: كُنْتُ قائمًا في المَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذا عُمَرُ بنُ الخَطّابِ، فَقالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بهِما، قالَ: مَن أنْتُما؟ – أوْ مِن أيْنَ أنْتُما؟ – قالا: مِن أهْلِ الطَّائِفِ، قالَ: لو كُنْتُما مِن أهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُما، تَرْفَعانِ أصْواتَكُما في مَسْجِدِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم![5]. فمن باب الأدب إذا دخلنا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نرفع أصواتنا أدبًا.
ثالثًا: ما ثبت عن نبينا صلى عليه وسلم نقبله بقلب امتلأ يقينًا بصدقه وأمانته، ونترجمه عملًا واقعًا اقتداءً به عليه أفضل الصلاة والتسليم.
رابعًا: الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مسؤولية الأمة جميعًا، فقد حمله السلف دينًا يتعبدون به ليلًا ونهارًا مجاهدةً واصطبارًا، ونحن بعزم واستعانة بالله العزيز الحكيم على طريق الحق ماضين، ولسنته صلى الله عليه وسلم مُتَّبعين.
[1] البخاري. [2] البخاري ومسلم. [3] البخاري. [4] البخاري. [5] البخاري.
____________________________________________________
الكاتب: د. عطية بن عبدالله الباحوث
Source link