وعجلت إليك ربي لترضى (من دروس الحج)

منذ حوالي ساعة

لنتعلم من فريضة الحج وقدوم الحُجَّاج إلى بيت الله الحرام، وقيامهم بكثير من الأعمال والمناسك التي قد تُدرك العقول الغاية منها، لكن الله أمر بها فجاء الناس من كل فج عميق، شعارهم: ﴿  {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}

عبـــــــاد الله: فما الذي يجعل الحاجَّ المسلم يهجر أهله وولده، وداره وبلاده، ويبذل ماله وجهده، غير التقرب إلى الله، وتحصيل الثواب والأجر منه، ونَيل رضاه؟ قال تعالى:  {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}  [الحج: 27 – 29] والحج عبادة لها مقاصدُ عظيمة في حياة الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة المسلمة، ولعل من أهم هذه المقاصد – وهي من دروس الحج العظيمة – أن المسلم بعبادته هذه يرجو رضا الله، ويخضع له بالعبودية، ويدين له بالتوحيد الخالص، فما معنى أن يلبَسَ الحاج ثياب الإحرام، ويطوف بالبيت الحرام، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف بعرفة، ويرمي الجمرات، ويعمل مناسك الحج، ويقدِّم الهَدْيَ، ويذبح النُّسُكَ، إلا أنه يبتغي بذلك وجه الله، طالبًا لرضاه؟ ولذلك وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمام الحجر الأسود قائلًا: ((والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبَّلتُك))، وهذا هو الاتباع في الدين، والالتزام بأحكامه وأوامره، واجتناب نواهيه، والغاية رضا الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:  {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}  [التوبة: 62].

لقد ضرب إبراهيم عليه السلام المثلَ الأعلى في تقديم رضا الله على كل رضًا، فقد أخبرنا تعالى مبينًا صدقه عندما امتحنه وابتلاه في أعز ما يملك في هذه الحياة، وأمره بذبح ابنه؛ فقال: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك (والرؤيا في حق الأنبياء وحي من الله ) فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين  {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}  [الصافات: 102 – 107]، ورضا الله عبادة الأنبياء، وطريق الأولياء، وسنة الشهداء، وسبيل المؤمنين الأتقياء، من أجلها سجَدَتِ الجِباهُ، وبُذلت الأموال، وأُريقت الدماء، وسالت الدموع، وتقرَّحت الشِّفاه؛ ولذلك لما عاد صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقد رُجِم بالحجارة من قِبَلِ السفهاء والمجانين، وسُدَّت في وجهه طرق البلاغ لدين الله، لم يَزِدْ على أن قال كلماتٍ يطلب فيها رضا ربه؛ قائلًا:  «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيد يتجهَّمني، أو إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل عليَّ غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».

 

فليتك تحلو والحياة مريـــرة   ***   وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ 

وليت الذي بيني وبينك عامر   ***   وبيني وبين العالمين خــرابُ 

إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكل هين   ***   وكلُّ الذي فوق التراب تـرابُ 

 

قال ابن رجب رحمه الله: “فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب”.

 

عبـاد الله: يقول صلى الله عليه وسلم محذرًا المؤمنين من هذا السلوك:  «من التمس رضا الله بسخط الناس، رضِيَ الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخِط الله عليه وأسخط عليه الناس»؛ (رواه ابن حبان في صحيحه)، إن رضا الله غاية لا تُتْرَك، ورضا الناس غاية لا تُدرَك؛ ولذلك يقول الشاعر:

ضحِكتُ فقالوا ألا تحتشـــم   ***   بكيت فقالوا ألَا تبتســــــــم 

بسمت قالوا يرائي بهـــــــــا   ***   عبستُ قالوا أبدى ما كتــــم 

صمتُّ فقالوا كليل اللســـان   ***   نطقت فقالوا كثير الكـــــلام 

حلُمتُ فقالوا صنيع الجبان   ***   ولو كان مقتدرًا لانتقــــــــــم 

فأيقنت أني مهمـــــا أردت   ***   رضا الناس لا بد مـــن أن أُذَم 

 

قال الشافعي رضي الله عنه: “رضا الناس غاية لا تُدرَك، فعليك بالأمر الذي يصلحك، فالزمه ودَعْ ما سواه، فلا تعانِهِ؛ فإرضاء الخلق لا مقدور، ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور”.

 

إنه عندما تغيب قيم الإيمان في النفوس، فإن المفاهيم وغايات الأعمال وأهدافها سوف تتبدل وتتغير، حسب المصلحة ورغبة الفرد، فينسى الناس خالقهم ومصيرهم والجزاءَ الذي ينتظرهم، ولن يجلبوا لأنفسهم إلا الشقاء والتعاسة، مهما عملوا لإرضاء غيرهم، فتجد المرأة تُرضي زوجها ولو خالفت شرع ربها، وترى الموظف يرى المخالفات تُرتَكب أمامه ويسكت إرضاءً لمديره، ويتعصب الرجل لقبيلته بالباطل إرضاءً لشيخه، وقد تجد من يشهد الزور من أجل أصحابه وجماعته، وتجد من يعُقُّ أمه وأباه إرضاءً لزوجته، وقد يكون أحدنا في مجلس فيسمع الغِيبة والنميمة، فلا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر إرضاءً لمن في ذلك المجلس، وحتى لا يعكر عليهم متعة الحديث، وهناك من يسلب الأموال، ويعتدي على الأعراض، وربما سَفَكَ الدماء إرضاءً لغيره وتقربًا منه، ويوم القيامة يتبرأ المتبوع من التابع؛ يقول تعالى:  {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}  [إبراهيم: 21]، بل على مستوى الأمة دولًا وشعوبًا ومجتمعات، فقد تجد بعضها لا يطبق شرع الله، ولا يحتكم إلى دينه، أو قد يستحي أن يعلن للعالم أنه يستمد تشريعاته من الإسلام؛ إرضاءً للغرب والشرق، وطمعًا فيما عندهم من فُتات الدنيا، وربما الجبن والخوف على المنصب والجاه والسلطان، بل لقد حُوربت الكثير من القيم والأخلاق، وارتُكِبت المحرمات باسم الحضارة والتمدن، والحرية وحقوق الإنسان المزعومة، كل ذلك ليرضَوا عنا، فما كان إلا الشقاء والتعاسة، والظلم وضيق الحياة، وكَدَر العيش؛ والله عز وجل يقول:  {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}  [البقرة: 120]، ويقول تعالى:  {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}  [النساء: 108].

فكم من إنسان في لحظة ضعف أو خضوع، أو خوف أو حب للشهوة والمنصب، والمال والجاه، يبيع دينه ودنياه برضا غيره، ولو سخط الله عنه، فيخسر سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة، ويسقط من عين الله، وينزل من قدره بين الناس حتى تُبْغِضَه نفوس الخلق، ويُكتَب عليه الشقاء! وكم من إنسان وقف يُرضي ربه بعمل صالح، أو كلمة طيبة، أو سلوك حسن، رغم حاجته وفقره وضعفه، لكنه آثَرَ ما عند الله، وعلم أنه خير وأبقى! لقد استدعى عمر بن هبيرة والي العراق الحسنَ البصريَّ، والإمام الشعبي؛ ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم، هل ينفذها أم لا؟ فسأل عمرُ الشعبيَّ في هذا الموقف أولًا، فقال كلامًا يُرضي الوالي والخليفة، والحسن البصري ساكت، فلما انتهى الشعبي من كلامه، التفت عمر بن هبيرة إلى الحسن، وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فوعظه الحسن البصري موعظة قوية، أمره فيها بالمعروف، ونهاه فيها عن المنكر، ولم يداهن أو يوارِ، فقال فيما قال: “يا بنَ هبيرة، خَفِ الله في يزيدَ، ولا تَخَفْ يزيدَ في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيدَ، وأنَّ يزيدَ لا يمنعك من الله، يا بن هبيرة، إنه يوشك أن ينزل بك مَلَكٌ غليظ شديد، لا يعصي الله ما أمره، فيُزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك؛ حيث لا تجد هناك يزيدَ، وإنما تجد عملك، يا بنَ هبيرة، إنك إن تكُ مع الله تعالى وفي طاعته، يكفِك بائقةَ يزيدَ في الدنيا والآخرة، وإن تكُ مع يزيد في معصيته، فإن الله يَكِلك إلى يزيد، واعلم يا بن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الخالق عز وجل”، فبكى عمر بن هبيرة حتى بلَّت دموعه لحيته، وأكرم الحسن البصري إكرامًا شديدًا، ولم يلتفت إلى الشعبي، فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد، واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما، التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسًا هامًّا؛ تعلم ألَّا يُرضي أحدًا دون الله تعالى بعد ذلك؛ قال: “يا أيها الناس، من استطاع منكم أن يُؤثِرَ الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولًا لا أجهله – يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن – ولكن أردت فيما قلت وجهَ ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قال وجه الله”.

 

وهذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يضرب لنا في سلوكه وخُلُقه وتعامله مثلًا رائعًا في تقديم رضا الله ومحابِّه على رضا النفس والهوى؛ عن الفهري عن أبيه قال: كان عمر بن عبدالعزيز يقسم تفاحًا للمسلمين من الفيء، فأخذ ابنٌ له صغير تفاحة، فانتزعها من فيه، فأوجعه فسعى إلى أمه يبكي، فسألته، فقال: لقد أخذ تفاحة من مال المسلمين، ووالله لقد انتزعها من ابني، ولكأنما نزعتها عن قلبي، ولكن كرهت أن أضيع نصيبي من الله عز وجل بتفاحة من مال المسلمين، فيا ويل من لم يُرضِ ربه يوم يُبعثَر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، ويا ويل من ضيَّع دينه بدنياه، وعمِل من أجل نيل رضا المخلوق، ونَسِيَ الخالق سبحانه.

 

أيها المؤمنون عبــاد الله:

لنتعلم من فريضة الحج وقدوم الحُجَّاج إلى بيت الله الحرام، وقيامهم بكثير من الأعمال والمناسك التي قد تُدرك العقول الغاية منها، لكن الله أمر بها فجاء الناس من كل فج عميق، شعارهم:  {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}  [طه: 84]، فنتعلم جميعًا عبودية الرضا، وكيف نرضي ربنا في جميع شؤون حياتنا؛ حتى تستقيم حياتنا، وتصلح أحوالنا، وتقوى الأُخُوَّة بيننا، ويسود الحق والعدل في مجتمعاتنا، وإن من أعظم المظاهر التي يُستدَلُّ بها على طلب العبد رضا ربه، أن يقوم بما أمره، ويتجنب ما نهاه، وأن يشكره على نعمه، وأن يطلب رضاه في كل قول وعمل، ويُؤثِر الحق على شهوته ورغبته وحاجته، وأن يوقن بأن رضا الناس غاية لا تُدرَك، ورضا الله غاية لا تُتْرَك، فاللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واجعل رضاك أحبَّ إلينا من أنفسنا والدنيا وما سواها.

 

هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}  [الأحزاب: 56]، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذل أعداءك أعداء الدين.ركم، واشكروه على نعمه يزدكم،  {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}  [العنكبوت: 45].

_____________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *