الطريق إلى العلم بالتوحيد – طريق الإسلام

في هذه الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: تعلَّم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية، ويجوز لك وللخلق عبادته – إلا الله الذي هو خالق الخلق، ومالك كل شيء، يدين له بالربوبية كل ما دونه”.

مالك بن محمد بن أحمد أبو دية

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأصلي وأسلم على المبعوث بالإسلام والتوحيد، الماحي الكفرَ والشركَ والتنديد، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

يقول الله تعالى: {﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾} [محمد: 19]؛ قال الطبري رحمه الله في هذه الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: تعلَّم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية، ويجوز لك وللخلق عبادته – إلا الله الذي هو خالق الخلق، ومالك كل شيء، يدين له بالربوبية كل ما دونه”.

وقال القرطبي رحمه الله: “قوله تعالى: { ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾} ؛ قال الماوردي: وفيه – وإن كان الرسول عالمًا بالله – ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله.

الثاني: ما علمته استدلالًا، فاعلمه خبرًا يقينًا.

الثالث: يعني: فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبَّر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه؛ وعن سفيان بن علينا أنه سُئل عن فضل العلم، فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به: {﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾} ؛ فأمر بالعمل بعد العلم”.

اعلم – رحمك الله – أن توحيد الله جل وعلا أعظم الواجبات على الإطلاق، والعلم به أشرف العلوم وأوجبها وأنفعها؛ فلا يزهد في هذا العلم إلا من جهِل حقيقة دين الإسلام، وحقيقة ما خلقه الله له، وحقيقة ما أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لأجله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار؛ حصل للعبد غِناه، وسعادته، وزال عنه ما يعذبه”؛ [مجموع الفتاوى: ١/ ٥٦].

وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: “ومن الفرائض اللازمة تعليمك إياه – أي: التوحيد – أهلَ بيتك، ومَن تحت يدك من امرأة وبنت وخادم”؛ [الدرر السنية: ١/ ١٥٩].

وقال العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله: “لا يُزهد في التوحيد؛ فإن بالزهد فيه يوقع في ضده، وما هلك من هلك ممن يدعي الإسلام إلا بعدم إعطائه حقَّه ومعرفته حق المعرفة، وظنوا أنه يكفي الاسم والشهادتان لفظًا، ولم ينظروا ما ينافيه وما ينافي كماله: هل هو موجود أو مفقود؟”؛ [شرح كشف الشبهات: ٩].

والعلم بالتوحيد وتعلمه له طريق، ولهذا الطريق معالمُ لا بد من العلم بها والعمل بمقتضاها، وقد ذكرها العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: {﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾} [محمد: 19].

قال رحمه الله: “العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه: أن يعمل بمقتضاه.

وهذا العلم الذي أمر الله به – وهو العلم بتوحيد الله – فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد كائنًا من كان، بل كلٌّ مضطر إلى ذلك.

والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمورٌ:

١. أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته؛ فإنها توجب بذل الجهد في التألُّه له والتعبد للرب الكامل، الذي له كل حمد ومجد، وجلال وجمال.

٢. الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.

٣. الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية؛ فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.

٤. الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به؛ فإن هذا داعٍ إلى العلم بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.

٥. الخامس: معرفة أصناف الأوثان والأنداد التي عُبدت مع الله واتُّخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابدها نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، ولا ينصرون ما عبدتم، ولا يضرون ما عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة من جلب خير أو دفع شر؛ فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلاهية ما سواه.

٦. السادس: اتفاق كتب الله على ذلك وتواطؤها عليه.

٧. السابع: أن خواصَّ الخلق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقًا وعقولًا، ورأيًا وصوابًا وعلمًا؛ وهم الرسل والأنبياء، والعلماء الربانيون قد شهدوا لله بذلك.

٨. الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها، بما أودعها من لطائف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه.

فهذه الطرق التي أكثَرَ الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله، وأبداها في كتابه وأعادها، عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب؟ فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشُّبَهُ والخيالات، ولا يزداد على تكرر الباطل والشبه إلا نموًّا وكمالًا.

هذا وإن نظرت إلى الدليل العظيم والأمر الكبير؛ وهو تدبر هذا القرآن العظيم، والتأمل في آياته؛ فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد، ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره”؛ ا.ه.‍

فتبين من هذا أن من أراد أن يتعلم هذا العلم الشريف – وهو توحيد الله عز وجل – وجب عليه أن يبدأ فيه من معرفته سبحانه وتعالى المعرفةَ التي تورثه حب الله وخشيته، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له وحده، ولا سبيل لمعرفة ذلك إلا بمعرفة أسمائه الله الحسنى وصفاته العلى، والتفقه في معانيها للتعبد لله تعالى بها.

قال العلامة السعدي رحمه الله: “والله خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه، فهذا هو الغاية المطلوبة منهم؛ فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه وإهماله إهمال لما خُلق له، وقبيحٌ بعبدٍ لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه أن يكون جاهلًا بربه معرضًا عن معرفته”؛ ا.هـ.

وهذه المعرفة هي التي تغرس توحيد الربوبية وتقرره في النفوس، وهو – أي: توحيد الربوبية – يستلزم توحيد الألوهية، وهذه هي طريقة القرآن؛ ويؤكد هذا المعنى ويوضحه قوله تعالى: {﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾} [البقرة: 21]، والآية بعدها من سورة البقرة.

في جامع البيان أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه”؛ [جامع البيان: ١/ ٣٧٠].

• فقوله: {﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾} : هو أول أمر صريح في القرآن بعبادة الله، فدلَّ على وجوب عبادته سبحانه وحده.

• وقوله: {﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾} الآية: فيه بيان السبب الذي لأجله وجبت عبادة الله وهو خلقه للخلق ورزقه إياهم وتدبيره للكون.

• وقوله: {﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾} [البقرة: 22]: هو أول نهي صريح في القرآن عن الشرك؛ أي: لا تجعلوا لله شركاء في عبادته، وقد علمتم أن لا شريك له في الخلق والملك، والرزق والتدبير.

قال السعدي رحمه الله في هذه الآيات: “هذا أمر عام لكل الناس بأمر عام؛ وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ثم استدلَّ على وجوب عبادته وحده بأنه ربُّكم الذي ربَّاكم بأصناف النعم؛ فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة؛ فجعل لكم الأرض فراشًا تستقرون عليها، وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل، وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم، كالشمس والقمر والنجوم، وأنزل من السماء ماء، والسماء هو كل ما على فوقك فهو سماء؛ ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هنا السحاب، فأنزل منه تعالى ماءً؛ فأخرج به من الثمرات كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه، وزروع وغيرها رزقًا لكم به تُرزقون، وتقوتون وتعيشون وتفكَّهون، فلا تجعلوا لله أندادًا؛ أي: نظراء وأشباهًا من المخلوقين، فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبون الله، وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبَّرون، لا يملكون مثقال ذرة من في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، وأنتم تعلمون أن الله ليس له شريك ولا نظير، لا في الخلق والرزق والتدبير، ولا في العبادة، فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه، وهذه الآية جمعت بين:

١- الأمر بعبادة الله وحده.

٢- والنهي عن عبادة ما سواه.

٣- وبيان الدليل على وجوب عبادته وبطلان عبادة ما سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرًّا بأنه ليس له شريك في ذلك، فكذلك فليكن إقراره بأن الله لا شريك له في العبادة، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري وبطلان الشرك”؛ ا.هـ.

وبهذا يتبين لك أن العبد إذا اعتقد أن المستحق للعبادة هو الله لأنه الرب حقيقةً، كان هذا هو عين التوحيد، وهو دين الإسلام الذي رضِيَهُ الله لعباده، وأرسل به إليهم رسله.

وأما إن اعتقد أن أحدًا يستحق شيئًا من العبودية من المخلوقات التي خلع عليها من أوصاف الربوبية بلا حقٍّ ما جعل قلوب الجهلة يتعلقون بها، فهذا هو الشرك الذي سخطه الله، وتوعد عليه، وعادى المرسلون أقوامهم عليه؛ لأنه أعظم الظلم وأكبر الكبائر؛ لِما فيه من هضم الربوبية وتنقُّص الإلهية.

هذا وإذا استقر توحيد الربوبية في النفوس، استقر فيها تفرد الرب جل جلاله بالنعم الظاهرة والباطنة؛ كما قال تعالى: {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} } [النحل: 53]؛ فإن من أعظم مظاهر ربوبيته على خلقه هو إنعامه عليهم؛ قال تعالى: { ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾} [لقمان: 20]، وقال سبحانه: {﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ } [إبراهيم: 34].

فإذا استقر هذا في النفوس، أحبَّت خالقها المنعمَ عليها؛ لأن النفس مجبولة على حب من يحسن إليها، فأوجب لها هذا التعلق بالله وحده، وقطع التعلق بما سواه.

فإذا انضاف إلى ذلك العلم بكمال حاجة العباد وكمال فقرهم، مع كمال غِناه سبحانه، ازداد تعلقهم به لشدة فاقتهم وحاجتهم، وفقرهم إليه، وعدم استغنائهم عنه طرفة عين.

روى النسائي في الكبرى «أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فاطمة رضي الله عنها بقول: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفة عين»  [السنن الكبرى: ١٠٤٠٥].

وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يقول دُبُرَ كل صلاة:  «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» [سنن أبي داود: ١٥٢٢، السنن الكبرى: ٩٩٣٧، ومسند أحمد: ٢٢١١٩].

فمثل هذه الأدعية التي علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، كلها لإظهار الافتقار الكامل لله الغني الواحد القهار جل جلاله، وقد مرَّ قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يزول فقر العبد وفاقته إلا بالتوحيد، وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار؛ حصل للعبد غِناه، وسعادته، وزال عنه ما يعذبه”؛ [مجموع الفتاوى: ١/ ٥٦].

 

تمت

والحمد لله في الأولى والآخرة.

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *