المداومة على العمل الصالح – طريق الإسلام

ليس العمل الصالح الذي يستحبُّ للعبد المداومة عليه مقتصرًا على التلاوة والصَّلاة والصدقة وغيرها من العِبادات، بل الأمر يشملُ العبادات المتعدِّية النافعة للمجتمع

ثمرات المداومة على العمل الصالح:

1) تحصيل العمل المحبوب من الله:

• قال البخاري: “باب أحبُّ الدين إلى الله – عزَّ وجلَّ – أدومه”.

 

• وعند البخاريِّ ومسلمٍ عن مسروق قال: سألتُ عائشة – رضي الله عنها -: “أيُّ العمل كان أحبَّ إلى النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قالت: الدائم”.

 

• وفي “صحيح مسلم” عن عائشةَ أنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – سُئِل: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «أدوَمُه وإنْ قلَّ».

 

• وعند مسلمٍ عن عائشةَ زوجِ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنها كانت تقولُ: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «سَدِّدوا وقارِبُوا وأبشِروا، فإنَّه لن يُدخِل الجنَّةَ أحدًا عملُه»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أنْ يتغمَّدني الله منه برحمةٍ، واعلموا أنَّ أحبَّ العمل إلى الله أدومُه وإنْ قلَّ».

 

• وأخرج البخاريُّ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «إنَّ الدِّين يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا، وقارِبوا، وأبشِروا، واستَعِينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة».

 

• قال ابن حجر: “قوله: «فسددوا»؛ أي: الزَمُوا السدادَ؛ وهو الصواب بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، قال أهل اللغة: السداد التوسُّط في العمل، قوله: «وقاربوا»؛ أي: إنْ لم تستطيعوا الأخْذ بالأكمل فاعمَلُوا بما يقربُ منه، قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإنْ قلَّ، وأبهمَ المبشَّر به تعظيمًا له.

 

• ونقل ابنُ حجرٍ عن النوويِّ قوله: “بدوامِ القليل تستمرُّ الطاعة بالذِّكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخِلاف الكثير الشاقِّ، حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيدُ على الكثير المنقطِعِ أضعافًا كثيرة.

 

• وقال ابن الجوزي: إنما أحبُّ الدائم لمعنيَيْن:

أحدهما: أنَّ التارك للعمل بعد الدُّخول فيه كالمُعرِض بعد الوصل، فهو مُتعرِّض للذَّمِّ؛ ولهذا ورَدَ الوعيد في حقِّ مَن حفظ آيةً ثم نسيها، وإنْ كان قبلَ حفظِها لايتعيَّنُ عليه.

 

ثانيهما: أنَّ مُداوم الخير مُلازمٌ للخدمة، فليس من لازمِ الباب في كلِّ يوم وقتًا ما؛ كمَن لازَمَ يومًا كاملاً ثم انقطع”؛ “الفتح” 1/103.

 

• وقال ابن حجر: وقولها: “الدائم”؛ أي: المواظبة العرفيَّة.

 

• وقال أيضًا: والمداومة على العبادة وإنْ قلَّت أَوْلَى من جهد النفس في كثرتها، فالقليلُ الدائم أفضلُ من الكثيرِ المنقطع غالبًا.

 

• وقال النووي: قولها: “الدائم” فيه الحثُّ على القصد في العبادة، وأنَّه ينبغي للإنسان ألا يحتمل من العبادة إلا ما يطيقُ الدوام عليه، ثم يحافظ عليه.

 

• وقال النوويُّ: باب فضيلة العمل الدائم من قِيام الليل وغيره: “قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «عليكم من الأعمال ما تطيقون»؛ أي: تُطِيقون الدَّوام عليه بلا ضررٍ، وفيه دليلٌ على الحثِّ على الاقتصاد في العبادة، واجتناب التعمُّق، وليس الحديث مختصًّا بالصلاة بل هو عامٌّ في جميع أعمال البر”.

 

• وقال ابن حجر: قوله: “واستعينوا بالغدوة”؛ أي: استَعِينوا على مُداوَمة العبادةِ بإيقاعها في الأوقات المنشطة، والغدوة بالفتح سير أوَّلِ النَّهارِ، وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطُلوع الشمس. والروحة بالفتح السير بعد الزَّوال، والدلجة بضمِّ أوَّله وفتحه وإسكان اللام سير آخِر الليل، وقيل: سير الليل كله (وقيل: أوله، كما في “مختار الصحاح”)؛ ولهذا عبَّر فيه بالتبعيض، ولأنَّ عمل الليل أشقُّ من عمل النهار، وهذه الأوقات أطيبُ أوقاتِ المسافر، وكأنَّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – خاطَبَ مُسافرًا إلى مقصد، فنبَّهَه على أوقاتِ نشاطه؛ لأنَّ المسافر إذا سافَر الليلَ والنهارَ جميعًا عجز وانقطع، وإذا تحرَّى السيرَ في هذه الأوقات المنشطة أمكنَتْه المداومة من غير مشقَّةٍ، وحسَّن هذه الاستعارة أنَّ الدنيا في الحقيقة دارُ نقلةٍ إلى الآخِرة، وأنَّ هذه الأوقات بخصوصها أروَحُ ما يكونُ فيها البدن للعبادة”.

 

• وعند النسائي عن عائشةَ – رضي الله عنها – قالت: “كان لرسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حصيرةٌ يبسطُها بالنهار ويحتجرها بالليل فيُصلِّي فيها، ففطنَ له الناسُ فصلَّوْا بصلاته وبينه وبينهم الحصيرة، فقال: «اكلفوا من العمل ما تُطِيقون؛ فإن الله –عزَّ وجلَّ– لا يملُّ حتى تملُّوا، وإنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله – عزَّ وجلَّ – أدومَه وإن قَلَّ»، ثم ترك مُصلاه ذلك فما عادَ له حتى قبضَه الله – عزَّ وجلَّ – وكان إذا عَمِلَ عملاً أثبته”.

 

2) التأسِّي بالنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبالسلف:

• فأخرَجَ النسائي عن عائشةَ – رضي الله عنها -: “وكان إذا عمل عملاً أثبته”؛ تعني: النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

• وعن هديِه – صلَّى الله عليه وسلَّم – في العمل الصالح سأَلَ علقمةُ أمَّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قال: قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عملُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – هل كان يخصُّ شيئًا من الأيَّام؟ قالت: لا، كان عمله ديمةً، وأيُّكم يستطيعُ ما كان رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يستطيع؛ أخرجه مسلم.

 

• وفي حديث عبدالله بن عمرٍو – رضي الله عنهما – المشهورِ ولفظُه عند مسلم: ((كنتُ أصومُ الدهرَ، وأقرَأُ القرآنَ كلَّ ليلةٍ، قال: فإمَّا ذُكرت لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وإمَّا أرسَلَ لي، فأتيتُه، فقال: «ألم أُخبر أنَّك تصومُ الدهر وتقرأُ القرآن كل ليلةٍ» ؟)) فقلت: بلى يا نبي الله، ولم أردْ إلا الخير، قال: «فإنَّ بحسْبك أنْ تصومَ من كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّام…»، ثم قال: «واقرأ القُرآن في كلِّ شهر»، قال: قلت: يا نبيَّ الله، إنِّي أطيقُ أفضلَ من ذلك، قال: «فاقرَأْه في سبعٍ، ولا تزد على ذلك، فإنَّ لزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرِك عليك حقًّا، ولجسدِك عليك حقًّا»، قال: فشددت فشدَّد علي، قال: وقال لي النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لعلَّك يطولُ بك العمر»، فصِرتُ إلى الذي قال لي النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فلمَّا كبرت وددت أنِّي قبلتُ رخصةً النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

• وفي “السير” 11/298 عن عاصم بن عصام البيهقي قال: بتُّ ليلةً عند أحمد بن حنبل فجاء بماءٍ فوضعه، فلمَّا أصبح نظر إلى الماء بحالِه فقال: “سبحان الله! رجلٌ يطلب العلم لا يكون له وردٌ بالليل”.

 

• وقد ورد من فعل السلف ما لا يُحصَى من حِرصهم على مُداومة العمل الصالح؛ كقيام الليل، وتلاوة القرآن، وطلب العلم وتعليمه.

 

3) عدم الندم إذا انقضى اليومُ بلا عمل صالح:

• قال الشاعر:

إِذَا مَرَّ بِي يَوْمٌ وَلَمْ أَقْتَبِسْ هُدًى  **  وَلَمْ أَسْتَفِدْ عِلْمًا فَمَا ذَاكَ مِنْ عُمْرِي 

 

• وقال حكيمٌ: “مَن أمضى يومًا من عُمره في غير حقٍّ قَضاه، أو فَرضٍ أدَّاه، أو مجدٍ أثَّلَه، أو حمدٍ حصَّلَه، أو خيرٍ أسَّسَه، أو علمٍ اقتبسَه – فقد عقَّ يومه، وظلم نفسَه”، ولا شكَّ أنَّ هذا الندم لا ينفعُ!

 

• وأيام العمر تمضي على عجل:

مَرَّتْ سِنِينٌ بِالوِصَالِ وَبِالهَنَـــــا  **  فَكَأَنَّهَا مِنْ قَصْرِهَا أَيَّـــامُ 

ثُمَّ انْثَنَتْ أَيَّامُ هَجْرٍ بَعْدَهَــــــــا  **  فَكَأَنَّهَا مِنْ طُولِهَا أَعْــوامُ 

ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ وَأَهْلُهَـا  **  فكأنها وكأنهم أحــــــلام 

 

• وقال آخَر:

وَمَا المَرْءُ إِلاَّ رَاكِبٌ ظَهْرَ عُمْرِهِ  **  عَلَى سَفَرٍ يُفْنِيهِ بِاليَوْمِ وَالشَّهْرِ 

يَبِيتُ وَيُضْحِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ  **  بَعِيدًا عَنِ الدُّنْيَا قَرِيبًا إِلَى القَبْرِ 

 

• أخرج البخاريُّ عن عبدالله بن عمرَ – رضي الله عنهما – قال: أخَذ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بمنكبي فقال: «كُنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظِرِ الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِرِ المساءَ، وخُذْ من صحَّتك لمرضِك، ومن حَياتك لموتك”.

 

• قال ابن حجر: وقوله: “خذ من صحَّتك…” إلخ؛ أي: اعمل ما تلقى نفعه بعد موتِك، وبادِرْ أيَّام صحَّتك؛ فإنَّ المرض قد يطرأ فيمتنعُ من العمل، فيُخشَى على مَن فرَّط في ذلك أنْ يصلَ إلى المعاد بغير زادٍ، ولا يُعارض ذلك الحديثُ الماضي في الصحيح: «إذا مَرِضَ العبدُ أو سافر كتَب الله له ما كان يعمَلُ صحيحًا مقيمًا»؛ لأنَّه ورَد في حقِّ مَن يعملُ، والتحذير الذي في حديث ابن عمر في حق مَن لم يعمل شيئًا، فإنَّه إذا مَرِضَ نَدِمَ على ترْكه العملَ، وعجزَ لمرضه عن العملِ؛ فلا يفيده الندمُ”، ا.هـ.

 

• وقد أخبَرَنا القُرآن الكريم عن ندَم أولئك الذين فرَّطوا في دنياهم ﴿  {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}  ﴾ [المؤمنون: 99، 100].

 

4) تنظيمُ الوقت بحيثُ لا يطغَى عملٌ على عمل، أو تملُّ النفس من تكرار عملٍ واحد:

• قال ابن قدامة في “مختصر منهاج القاصدين” 56: والنفس متى وقَفت على فنٍّ واحد حصَل لها مللٌ، فمن التلطُّف نقلها من فنٍّ إلى فنٍّ، وقد قال الله تعالى: ﴿  {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}  ﴾ [الإنسان: 25، 26].

 

وهذا يدلُّ على أنَّ الطريق إلى الله تعالى مُراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على الدَّوام، وقد قال تعالى: ﴿  {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}  ﴾ [الفرقان: 62]؛ أي: يخلفُ أحدهما الآخَر ليتدارَك في أحدهما ما فات في الآخر”.

 

5) امتثالُ الأمرِ الرباني: ﴿  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}  ﴾ [آل عمران: 102]:

• قال القرطبي: إيجازٌ بليغ؛ والمعنى: الزَمُوا الإسلامَ وداوِموا عليه ولا تُفارقوه حتى تموتوا، وقوله – تعالى -: ﴿  {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}  ﴾؛ أي: حافِظُوا على الإسلام في حال صحَّتكم وسلامتكم لتَمُوتوا عليه، فإنَّ الكريم قد أجرى عادتَه بكرمِه أنَّه مَن عاش على شيء مات عليه، ومَن مات على شيء بُعِثَ عليه.

 

6) تحقيقُ معنى الاستقامة المطلوبة وتحصيل سببٍ لحسن الختام؛ ﴿  {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}  ﴾ [فصلت: 30].

 

• قال القرطبي في “تفسيره”: “في “صحيح مسلم” عن سُفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدَك – وفي رواية: غيرك – قال: «قُلْ آمنتُ بالله ثم استَقِمْ»، ثم لما ذكَر أقوال الصحابة والتابعين في بَيان معنى الاستقامة، قال: قلت: وهذه الأقوال وإنْ تداخَلتْ فتلخيصها: اعتَدِلوا على طاعةِ الله عقدًا وقولاً وفعلاً، وداوموا على ذلك”، ا.هـ.

 

7) تحصيل محبَّة الله بالمداومة على فعل الطاعة:

• ففي الحديث القدسي: ” «وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ ممَّا افترضت عليه» “، فأداء الفرائض والاهتمام بها أحبُّ إلى الله من الانشِغال بالنوافل الكثيرة، ثم إنَّ للنوافل أثرَها وأجرَها “وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإنْ سألني لأعطينَّه، ولئنِ استعاذني لأعيذنَّه”؛ أخرجه البخاري، فانظُرْ إلى أثر النوافل حين يعصمُ الله العبد وجوارحه بسببها.

 

8) تكميل ما يحصل في الفرائض من النقص:

أخرج الترمذيُّ أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «إنَّ أوَّل ما يُحاسَبُ به العبدُ يوم القيامة من عملِه صلاته؛ فإنْ صلحت فقد أفلح وأنجح، وإنْ فسَدتْ فقد خابَ وخسر، فإنِ انتُقِص من فريضتِه شيءٌ قال الرب – عزَّ وجلَّ-: انظُروا هل لعبدي من تطوُّعٍ فيكمل بها ما انتقَص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك»، قال الترمذي: (حديث حسن غريب) .

 

• في شرح الحديث من “تحفة الأحوذي” 2 / 384: “قال العراقي في “شرح الترمذي”: يحتملُ أنْ يُراد به ما انتقَصَه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنَّه يحصلُ له ثوابُ ذلك في الفريضة وإنْ لم يفعله فيها وإنما فعله في التطوُّع، ويحتملُ أنْ يُراد به ما انتقص أيضًا من فُروضها وشُروطها، ويحتمل أنْ يُراد ما ترَك من الفرائض رأسًا، فلم يصلْه فيعوض عنه من التطوُّع، والله – سبحانه وتعالى – يقبلُ من التطوُّعات الصحيحة عِوَضًا عن الصلوات المفروضة، انتهى، ثم يكونُ سائرُ عملِه على ذلك؛ أي: إن انتقص فريضة من سائر الأعمال تكمل من التطوُّع”.

 

9) النجاة من الشدائد:

ولا يخلو إنسانٌ من وقت كربةٍ وضيق:

• أخرج الترمذي وغيره من حديث ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -: ((تعرَّفْ إلى الله في الرَّخاء يعرفْك في الشدَّة)).

 

• وقال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: يعني: أنَّ العبد إذا اتَّقى الله وحفظ حُدوده وراعى حُقوقه في حال رَخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصارَ بينه وبين ربِّه معرفةٌ خاصَّة فعرفه ربُّه في الشدَّة.

 

• وقال ابن كثير حول قوله – تعالى -: ﴿  {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}  ﴾ [الصافات: 143، 144]: قيل: لولا ما تقدَّمَ له من العمل في الرَّخاء.

 

• وعند مسلمٍ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «بادِرُوا بالأعمالِ فتنًا كقطع الليلِ المظلم؛ يصبحُ الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا»، قال ضياء الدين المباركفوري: معنى مُبادرة الفتن بالأعمال: ذكَر ابن الأثير أنَّه الانكماش والإسراع إلى الأعمال الصالحة والاهتمام بها قبل وُقوعها، وذكَر النووي أنَّ فيه الحثَّ على المبادرةِ إلى الأعمال الصالحة قبلَ تعذُّرها والاشتغالِ عنها بما يحدثُ من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة.

 

10) سُهولة العمل مع المداومة؛ ﴿  {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}  ﴾ [العنكبوت: 69]، فصلاة النوافل والتلاوة والذِّكر والعمل الدعوي قد يثقلُ على النفس ابتداءً، ولكن مع الاعتياد يسهُلُ، و”لكلِّ امرئٍ من دهره ما تعوَّدا”.

 

11) استِمرار أجر العمل الصالح المُعتاد عليه حتى لو منَع منه لعذرٍ:

• أخرج البخاري عن أبي بردةَ قال: سمعت أبا موسى – رضي الله عنه – مِرارًا يقول: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إذا مَرِضَ العبدُ أو سافَر كُتِبَ له مثلُ ما كان يعملُ مقيمًا صحيحًا».

 

• قال ابن حجر: “هو في حقِّ مَن كان يعملُ طاعةً فمُنِعَ منها وكانت نيَّته لولا المانعُ أنْ يدوم عليها؛ كما ورد ذلك صريحًا عند أبي داود”، ونصُّه عند أبي داود: عن أبي بردة عن أبي موسى قال: سمعت النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – غير مرَّةٍ ولا مرتين يقول: «إذا كان العبد يعملُ عملاً صالحًا فشغَلَه عنه مرضٌ أو سفرٌ كُتِبَ له كصالح ما كان يعملُ وهو صحيح مقيم».

 

• وعند النسائي أنَّ عائشة – رضي الله عنها – أخبرَتْه أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «ما من امرئٍ تكونُ له صلاةٌ بليلٍ فغلبه عليها نومٌ إلا كتَب الله له أجرَ صلاتِه وكان نومُه صدقةً عليه».

 

12) إمكانيَّة قضاء الوِرد لو فات:

• فقد روَى مسلم عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن نامَ عن حزبِه أو عن شيء منه فقرَأَه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظُّهر كُتِبَ له كأنما قرَأَه من الليل»، وكلمة ((حزبه)) تُوحي بالعمل المعتاد، ولا شكَّ أنَّ العبادة في الليل أفضلُ من النهار.

 

• شرح الحديث من “تحفة الأحوذي” 3/150 قوله: «مَن نام عن حزبه»؛ أي: عن ورده؛ يعني: عن تمامه… قال العراقي: “وهل المراد به صلاة الليل أو قِراءة القُرآن في صلاة أو غير صلاة؟ يحتملُ كلاًّ من الأمرين”، انتهى، «أو عن شيءٍ منه»؛ أي: من حِزبه؛ يعني: عن بعض وِردِه، «كُتِبَ له» جواب الشرط، «كأنما قرأه من الليل» صفة مصدر محذوف؛ أي: أثبت أجره في صحيفةِ عمله إثباتًا مثل إثباته حِين قرَأَه من الليل قالَه القارئ، والحديث يدلُّ على مشروعيَّة اتِّخاذ وِردٍ في الليل وعلى مشروعيَّة قضائه إذا فات لنومٍ أو لعذرٍ من الأعذار، وأنَّ مَن فعَلَه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظُّهر كان كمَن فعَلَه في الليل”، ا.هـ.

 

ثالثًا: تنبيهات:

1. الأعمال الصالحة تتفاوَتُ ويختلفُ الناس في المناسب منها، وكلٌّ بحسَبِه:

• فمثلاً: من أفضل العمل الصالح: تلاوةُ القرآن، وقد قال ابن قُدامة في “مختصر المنهاج” 52 بعد أنْ ذكَر اختلافَ السلف في كم يختمُ القرآن: “ومنهم مَن كان يختمُ في كلِّ شهرٍ اشتغالاً بالتدبُّر أو بنشر العلم أو بتعليمه أو بنوعٍ من التعبُّد غير القراءة أو بغيره من اكتساب الدُّنيا، وأولى الأمر ما لا يمنع الإنسان من أشغاله المهمَّة، ولا يُؤذيه في بدنه، ولا يفوته معه الترتيلُ والفهمُ… ومَن وجد خلسةً في وقتٍ فليغتنم كثرةَ القراءة ليفوز بكثرة الثواب”.

 

2. من أمثلة الأعمال الصالحة التي يمكن المداومة عليها:

أ- صلاة الليل والوتر وإن قلت.

ب- السنن الرواتب.

ج- تلاوة القرآن الكريم.

د- أذكار الصلوات.

هـ- ورد الصباح والمساء.

و- الذكر والتسبيح.

ز- طلب العلم، وقراءة الكتب النافعة، وحُضور مجالس العلم.

 

3. ليس العمل الصالح الذي يستحبُّ للعبد المداومة عليه مقتصرًا على التلاوة والصَّلاة والصدقة وغيرها من العِبادات، بل الأمر يشملُ العبادات المتعدِّية النافعة للمجتمع، ومن أمثلتها:

أ- المداومة على الدعوة إلى الله تعالى.

ب- نشر العلم (ولو آية).

ج- بر الوالدين وزيارتهما وتعاهدهما.

د- تربية الأولاد.

هـ- الإحسان إلى الزوجة.

و- صلة الرَّحِم.

ز- الصَّدقة ولو بالقليل.

ح- الاهتمام بأمرِ المسلمين، ونُصرتهم ولو بالدعاء.

 

وبعد هذا التطواف هل عزم كلٌّ واحدٍ منَّا على أنْ يكون له عملٌ دائم يحتسبُه عند الله ويدَّخره لمستقبله؟ سواء كان العلم تعبُّديًّا محضًا أو كان عملاً خيريًّا متعدِّيًا؟

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 


[1] ألقيت هذه المحاضرة في مسجد العليان بتاريخ: 8/10/1425هـ.

__________________________________________________
الكاتب: الشيخ د. عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *