انتشرت في الأشهر الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات لإلغاء عيد الاضحى المبارك، وقد تزايد هذا الجدل وأخذ حيزا كبيرا من النقاش بين عامة الناس في الأسابيع
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته، واهتدى بهديه.
انتشرت في الأشهر الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات لإلغاء عيد الاضحى المبارك، وقد تزايد هذا الجدل وأخذ حيزا كبيرا من النقاش بين عامة الناس في الأسابيع
الأخيرة، حتى تحول في بعض البلاد العربية إلى حملات في الصحف، وعلى بعض المواقع.
وسبب هذه الظاهرة، راجع لغلاء المعيشة، والظروف الاقتصادية الصعبة، وتضرر القدرة الشرائية للناس، وخاصة بسبب ارتفاع أسعار المواشي التي وصلت لمستويات قياسية هذا العام؛
وكثر اللغط، فمن يقول نقاطعها الأضحية، ومن يقول هي سنة مؤكدة وليست عبادة، ومن يدعو الدولة لإعلان إلغاء العيد، ومن يقول الحل أن تتشارك العائلات في الأضحية الواحدة…
فاعلم يرحمك الله، أنَّ الأضحيةُ سنةُ أبينا إبراهيم عليه السلام الذي أمرنا باتباع ملته،
وسنة نبينا محمد ﷺ، وهي مشروعةٌ بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين، وهي من
أحبّ الأعمال إلى اللَّه تعالى، قرنها بالصَّلاة فقال سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [1]
والأضحية ليست مجرد عادة اعتادها الناس، بل هي نسك وعبادة، لا يقصدُ بها إلا وجه اللَّه تعالى، قال سبحانه: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى
مِنْكُم﴾ [2] ، وقد « «ضَحَّى النَّبِيُّ ﷺ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ[3]، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ» » [4]
وقد رغب النبي في الحفاظ على هذه السنة، فقال ﷺ: ««ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا»» [5]
وفي حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: ««قال أصحاب رسول الله ﷺ: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: بكل شعرة حسنة، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة»» [6]
وقد اختلف أهل العلم في حكم الأضحية فذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة مؤكدة،
ويرى أبو حنيفة أنها واجبة، وهو أحد القولين في مذهبي الإمام مالك والإمام أحمد،
وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدل الذين قالوا بالوجوب بعدة نصوص منها: حديث عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما قال: « «أقام النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة عشر سنين يضحي» » [7]
وقوله ﷺ: ««إِنَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أضْحية»» [8]
وقوله ﷺ: « «من كان له سَعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا»» [9]
وقوله ﷺ: ««مَن ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا»» [10]
وحديث البراء بن عازب عن خاله أبو بردة بن نيار رضي الله عنهما عندما تعجل وذبح
قبل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ««أعد نسكا»» [11]
وحديث ابن عمر رضي الله عنه، وقد سأله رجل عن الأضحيةِ أ واجبةٌ هي؟
فقال «ضحَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ والمسلِمونَ، فأعادها عليهِ (كأنه يريد أن
يجيبه ابن عمر بأنها سنة وليست واجب، فغضب ابن عمر منه) فقال أتعقل، ضحَّى
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ والمسلِمونَ» [12]
ولست هنا أجزم ولا حتى أرجح بأنها واجبة، فجمهور العلماء قالوا: الأضحية سنة مؤكدة.
ولكنني أقول: لا يجوز الدعوة إلى عدم التضحية بحجة غلاء الأسعار، لأن في هذا تعطيلا لشعيرة من شعائر الله، ومحاربة لسنة من سنن الإسلام، ورد معلوم من الدين بالضرورة،
وتطاول على شرع الله، واستهتار بدينه، وبثوابته، وجرأة يخشى صاحبها على نفسه.
أن لا تضحي شيء، ولكن أن تدعو الناس لترك سنة فأنت على خطر عظيم: قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: «أمَّا ما كان نصُّ كِتابٍ بيِّنٍ أو سُنَّةٍ مُجتَمَعٍ عليها فالعُذرُ فيها مقطوعٌ، ولا يسَعُ الشَّكُّ في واحدٍ منهما، ومن امتنع من قَبولِه استُتيبَ» [13]
وقال ابنُ تيميَّةَ رحمه الله رحمه الله: «الحَلالُ ما حَلَّله اللهُ ورَسولُه، والحَرامُ ما حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، والدِّينُ ما شرعه اللهُ ورَسولُه؛ وليس لأحَدٍ أن يَخرُجَ عن شَيءٍ مِمَّا شَرَعه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الشَّرعُ الذي يجِبُ على وُلاةِ الأمرِ إلزامُ النَّاسِ به، ويجِبُ على المجاهِدين الجِهادُ عليه، ويجِبُ على كُلِّ واحدٍ اتِّباعُه ونَصْرُه» [14]
حتى قال بعض أهل العلم؛ الأضحيةُ خير من التصدق بثمنها، قال ابن القيم رحمه الله:
«الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه…» وقال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله:
«لأن ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلّم والمسلمين معه؛ ولأن الذبح من شعائر الله
تعالى، فلو عدل الناس عنه إلى الصدقة لتعطلت تلك الشعيرة، ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل من ذبح الأضحية لبينه النبي صلى الله عليه وسلّم لأمته بقوله أو فعله»[15]
وقالت طائفة من العلماء: لا بأس أن يقترض الرجل ليضحي، فقد سأل الإمام ابن
باز رحمه الله تعالى: هل يجوز لرجل لا يملك ثمن الأضحية حاضرًا، هل يجوز له
الاستلاف، لشراء الأضحية، ثم يقوم بتسديد هذا المبلغ لصاحبه فيما بعد..؟ فأجاب:
«نعم يستحب له، يستقرض، ويستدين، ويضحي، إذا كان خلفه ما يوفي منه، عنده ما يوفي منه…. الضحية سنة ولو بالاستدانة، إذا كان عنده ما يقضي ويوفي منه. نعم» [16]
فمن علم أن الأضحية ليست بواجبة، وحتى لو فرضنا وجوبها، فإنها واجبة فقط على القادر؛ قال الله تعالى: {﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾} [17] و {﴿لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها﴾} [18] فمن لم يجد سعة ليضحي، فلا شيء عليه؛
فلماذا يدعوا لقطع هذه السنة؟ وهو يعلم أنها ليست واجبة؟
أنا لا أشك أن كثيرا من الذين يخوضون في هذا الجدل، إنما يخوضون فيه عن حسن
نية، لما عاينوه من ارتفاع في الأسعار، وغلاء في المعيشة، وجشع بعض التجار؛ فهؤلاء عليهم أن يتوبوا الى الله، ولا يتجرؤوا على دينه.
وأما أولئك الذين يقصدون، محاربة دين الله، وسننه، وشرعه، فهؤلاء أقول لهم ارْبَعُوا
على أنفسكم، فالله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العصاة،
وإنما لا يريد لنا سبحانه من الأضاحي، إلا التقوى: {﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم﴾ } [19]
إن غلاء الأسعار قد عم كل شيء تقريبا، فلماذا تريدون مقاطعة العيد فقط؟ إن هذا ليجعلنا نرتاب في دوافعكم، بدعوتكم لمقاطعة العيد، ومن يقف وراءكم.
لماذا تدعون لمقاطعة هذه السنة، ولا تدعون لمقاطعة كل تلك الأعياد البدعية التي
ابتكرها غير المسلمين، والتي انتشرت في البلاد العربية والاسلامية، وليست هي من ديننا
ولا من عاداتنا وتقاليدنا.
لا ينبغي للمسلم القادر ترك الأضحية لغير عذر، ولا يتذمَّرُ من الغلاء، ويحتسب أجره عند اللّه سبحانه، والله يخلف له، قال تعالى: {﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾} [20] وأن تكون الأضحية سنة مؤكدة لا يعني أن نتخلى عنها، فقد قال فقهاء الإسلام أنه يكره للقادر عليها تركها، لأن في تركها تضييع للأجر العظيم، والخير الكثير، فيضحي المسلم ويأكل من أضحيته ويتصدق منها للفقراء، ويهدي لأقاربه وجيرانه، فيزيد التكافل والمحبة، وتعم الفرحة والخير بين المسلمين.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
أبو عبد الرحمان زهير رزق الله
[1]– سورة الكوثر الآية 2
[3] الأملحُ: الأسودُ الذي يعلُو شعرَهُ بياضٌ، والأقرن: ذو القرون.
[6] – رواه الإمام أحمد وابن ماجه
[7] – رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
[8] – رواه أحمد وأبو دَاوُدَ عن زيد بن أرقم رضي الله عنه
[9] – رواه الترمذي وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها
[11] – رواه البخاري ومسلم
[12] – رواه الترمذي وابن ماجه
[13] – الرسالة ص 460
[15] — مختصر أحكام الأضحية
[19] – سورة الحج الآية 37
Source link