فمن لم يتيسر له الحج فليس محرومًا؛ فنيّته الصادقة تُبلِّغه، فصِدْق المشاعر يُبَلِّغُ المشاعر، وهنا الفرق بين من ينوي ويسعى ولكن تمنعه الموانع، وبين مَن لا يخطر له الحج على بالٍ.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فإنّ الحج لغةً: القصد[1]. والحجّ كغيره من العبادات التي يعمل فيها البدن؛ فهو قصدٌ بالبدن يَحْدوه ويبعثه قصدٌ بنية القلب وعزم الروح وشوق الفؤاد.
وحجُّ القلب مُساير لحجّ القَدَم والجوارح، لا يتخلّف أحدهما عن الآخر، وأصدق عرض لحجّ القلب آيات الحج في سورة الحج، كما أن حجّ الجوارح يظهر جليًّا في آيات سورة البقرة.
وأعمال القلوب أعظم مكانةً وأجلّ قدرًا من أعمال الجوارح؛ فهي الأُسُّ لها والباعثة عليها؛ {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]؛ {إن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70].
ونوع آخر من حجّ القلوب والأرواح، تُصوِّره لنا هذه الآية الكريمة؛ فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفير العام لغزوة تبوك، فجاء قوم ممَّن لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا يُعينهم على الجهاد، جاءوا كي يَحملهم ليشاركوهم في الغزو، فقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}؛ فـ {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92] ؛ فسُمُّوا بعدُ بالبكائين[2]، ودخلوا في الأجر مع السائرين للغزو؛ حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، ودنا من المدينة، قال: «إن بالمدينة أقوامًا، ما سِرْتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم». قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال: « «وهم بالمدينة؛ حبسهم العذر»[3].
لقد كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام في كلّ شِعْب ووادٍ؛ كانوا معهم منذ البداية، بقلوبهم المؤمنة، ونيّتهم الصادقة، فدخلوا معهم في الأجر والثواب؛ لأن الذي حبسهم ومنعهم من المشاركة عذرٌ؛ من مرض أو عدم نفقة، أو غير ذلك، ويشهد له قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْـمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْـمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء: 95]؛ فإنه فاضَل بين المجاهدين والقاعدين، ثم استثنى أُولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقَهم بالفاضلين[4].
فمن لم يتيسر له الحج فليس محرومًا؛ فنيّته الصادقة تُبلِّغه، فصِدْق المشاعر يُبَلِّغُ المشاعر، وهنا الفرق بين من ينوي ويسعى ولكن تمنعه الموانع، وبين مَن لا يخطر له الحج على بالٍ.
ويتفوق السائرون -حُجّاج الأبدان والقلوب- على حُجّاج القلوب والأرواح بتعرُّضهم لنفحات الزمان في شرف المكان، وهم أنفسهم يتفاوتون في مكاسبها بحسب تنافسهم فيها؛ فنَافِسْ أنت –حيثما كنت- على أكبر كَسْب تستطيعه، فلن يعمل لك أحد.
وقد يسبقُ حاجُّ القلبِ والروحِ حاجَّ البدن بلا روح؛ ممن لم يتقِ الله في حجّه:
إذا حَجَجْتَ بمالٍ أَصْلُه سُحْت
فما حَجَجْتَ ولكن حَجَّت العِيْرُ
فاللهم أصْلِح نياتنا، وأخْلِص لك قصدنا، واعمر بالإيمان واليقين قلوبنا.
[1] القاموس المحيط (183).
[2] يُنظَر: تفسير ابن كثير: 4/200.
[3] أخرجه البخاري (2684) و(4161)، عن أنس -رضي الله عنه-، ومسلم (1911) عن جابر -رضي الله عنه-.
[4] يُنظر: فتح الباري 6/47.
Source link