ما حسن الظن بالله؟ ما معناه؟ وكيف يكون؟ وهل هو مطلوب مرغوب؟ ومتى؟
قال الإمام النووي – رحمه الله – في كتابه “رياض الصالحين“: “اعلم أن المختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفًا راجيًا؛ (أي: جامعًا في قلبه بين الخوف من عقاب الله على ذنوبه، والرجاء لثواب الله ومغفرته).
ويكون خوفه ورجاؤه سواء؛ (فلا يغلب الخوف على الرجاء، ولا الرجاء على الخوف).
وفي حال المرض – والضعف، والحزن، والشدة، والاكتئاب- يمحض الرجاء؛ (أي: يكون رجاؤه خالصًا، صافيًا، لا يشوبه خوف، يقال: محض فلانًا الود أو النصح: أخلصه إيَّاه، والمحض: كل شيء خلص حتى لا يشوبه شيء يخالطه)”.
قال: وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك – متظاهرة على ذلك.
رأيت أن أقدِّم بهذه الكلمات بين يدي هذا المقال، الذي هو عن حسن الظن بالله تعالى، فما حسن الظن بالله؟ ما معناه؟ وكيف يكون؟ وهل هو مطلوب مرغوب؟ ومتى؟
لقد دعانا الله ربنا – سبحانه – إلى حسن الظن به، وشجعَنا رسولُنا – عليه الصلاة والسلام – على ذلك، ووردت بذلك أحاديثُ قدسية وأحاديث نبوية؛ فمن الأحاديث القدسية، قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه…»؛ (رواه البخاري ومسلم – رحمهما الله).
قال الشيخ محمد عوامة في كتابه “من صحاح الأحاديث القدسية”، شارحًا قوله: ((أنا عند ظن عبدي بي)):
الظن هنا: العلم واليقين؛ فالله – جل جلاله – يطمئن عباده: ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا، ما دمتم ترجون مني المغفرة، معتقدين أني أغفر لكم، فثِقُوا بأني قد غفرت لكم، وإن دعوتموني معتقدين الإجابة والنوال، راجين مني جزيل العطاء، فثقوا بذلك، وتحقَّقوا الإجابة؛ فأنا عند اعتقادكم ورجائكم، وهكذا سائر أحوال العبد، ينبغي أن يكون فيها واثقًا بربه أن يعامله بما هو -سبحانه وتعالى- أهلٌ له؛ ولذا جاء في رواية من روايات الحديث: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن ما شاء»؛ إجابة لدعاء، وشفاء من مرض، وغنى من فقر، ونصرة من ظلم، وعلمًا بعد جهل… وهكذا.
ثم يذكر الله – تعالى – فضل الذاكرين؛ فيقول: «وأنا معه إذا ذكرني»، وفي رواية لمسلم: «وأنا معه حين يذكرني»، وعند الترمذي: «وأنا معه إذا دعاني»، وكلها ألفاظ متفقة غير مختلفة؛ فهو -سبحانه- “مع” الذاكرين حين يذكرونه، وتمتد هذه المعية فلا تنقطع.
كما يستفاد من التعبير بـ “إذا” الظرفية لما يستقبل من الزمان، والذكر شامل للدعاء وغيره، من تسبيح، وحمد… وهذه المعيَّة – كما قال الإمام النووي- ليست بالعلم فقط، بل به، وبالرحمة، والتوفيق، والهداية، والرعاية؛ فلا تحصل له إلا ما فيه رحمة، ولا يقدر إلا بالتوفيق، وهكذا سائر شؤونهم تحضر فيها العناية الإلهية بالحفظ والوقاية.
هذا حديث قدسي عن رب العزة – تقدست أسماؤه – يحث على حسن الظن به.
أما من الأحاديث النبوية الشريفة، فقد روى الإمام مسلم وأبو داود – رحمهما الله – عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال قبل موته بثلاثة أيام: «لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»، وعند الترمذي وأبي داود: «إن حسن الظن بالله من حسن العبادة».
ورواه كذلك الإمام أحمد في مسنده في عدة مواضع، وقال عنه عبدالقادر الأرناؤوط – محقق جامع الأصول -: وهو حديث حسن.
والتأكيد على حسن الظن عند اقتراب الأجل، وترجيح الأمل والتفاؤل، بل إخلاص الأمل، والتفاؤل، والثقة بالكرم، والعفو، والرحمة، واللطف، والرأفة، والإحسان، والستر -ترجيح هذه المعاني والمشاعر المتعلقة بهذه الصفات الحسنى المذكورة؛ لأن مقصود الخوف- كما قال النووي رحمه الله في شرح مسلم – الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال؛ فاستحب إحسان الظن؛ للافتقار إلى الله – تعالى – والإذعان له، ويؤيده الحديثُ المذكور بعده: «يبعث كل عبد على ما مات عليه»؛ ولهذا أتى به مسلم عقب الحديث الأول مباشرة.
بقي أن نشير إلى معنى مهم، وهو الفرق بين حسن الظن، والاغترارِ برحمة الله، وهو كما ذكره ابن القيم – رحمه الله – في كتابه: “الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي”: إن حسن الظن يحمل صاحبَه على العمل، وإن الغرور يشجع صاحبَه على المعاصي، قال: ولو أن رجلاً كانت له أرض يؤمل أن يعود عليه منها ما ينفعه، فأهملها، ولم يبذرها، لم يحرثها، وأحسن ظنه بأنها يأتي من مغلها ما يأتي من حرث وبذر وسقي وتعاهد الأرض، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء، (وواضح أن هذا المعنى في غاية الصحة عندما يكون المرء في حالة الصحة، أما عند المرض، واقتراب الأجل، فالتوبة، والإنابة، واستحضار معاني صفات الرحمة والمغفرة – هي الأمور اللازمة، والله – تعالى – أعلم).
اللهم ارزقنا حسن الظن بك، وجميل التوكل عليك، والأخذ بالأسباب حتى نكون من دنيانا في جنة روحية وارفة الظلال، وأكرمنا في الآخرة برَوْح وريحان، وجنة نعيم.
Source link