قال ﷺ: «طلب العِلم فريضة على كل مسلم».
أ- الآيات القرآنية:
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، قال ابن عباس: “للعُلماء درجات فوق المؤمِنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتَين مسيرة خمسمائة عام”.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
ب- الأحاديث النبوية:
عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن مَثَل ما بعَثني الله به من الهُدى والعِلم، كمَثَل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيِّبة قَبِلت الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشبَ الكثير، وكان منها أجادِب أمسكَت الماء، فنفع الله بها الناس، فشَرِبوا وسقَوا وزرَعوا، وأصاب منها طائفة أُخرى، إنما هي قيعان لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِت كلأً، فذلك مثَل مَن فَقُه في دِين الله ونفعَه الله بما بعَثني به فعَلِم وعلَّم، ومثل مَن لم يَرفع بذلك رأسًا ولم يَقبلْ هُدى الله الذي أُرسِلت به»[2].
فانظر -رحمك الله- إلى هذا الحديث، ما أوقعَه على الخَلقِ، فإن الفقهاء أُولى الفَهم، كمثل البِقاع التي قَبلت الماء فأنبتَت الكلأ؛ لأنهم عَلِموا وفَهِموا، وفرَّعوا وعلَّموا، وغاية الناقِلين من المُحدِّثين الذين لم يُرزَقوا الفهم والفقه أنهم كمثل “الأجادب” التي حَفظت الماء فانتُفع بما عندهم، وأما الذين سَمعوا ولم يتعلَّموا ولم يحفَظوا، فهم العوامُّ الجهَلة، فمِن أيِّ الفِرَق أنت؟
قال الحسن -رحمه الله-: “لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم”، وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: “تعلَّموا العِلم؛ فإن تعلُّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومُدارَستَه تَسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمَن لا يَعلمه صدَقة، وبَذْلَه لأهلِه قُربَة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحِب في الخَلوة”، وقال كعب -رحمه الله-: “أوحى الله إلى موسى -عليه السلام-: أن تعلَّم يا موسى الخير وعَلِّمه للناس؛ فإني مُنوِّرٌ لمُعلِّم الخير ومُتعلِّمه قبورَهم حتى لا يَستوحِشوا بمكانهم”، عن صفوان بن عسال -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضًا بما يَصنع»[3]؛ قال الخطابي: في معنى وضْعِها أجنحتَها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بسْط الأجنحة.
الثاني: أنه بمعنى التواضُع؛ تعظيمًا لطالب العلم.
الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترْك الطيَران.
عن أبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: ذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان: أحدهما عابد، والآخَر عالم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فضْل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جُحرِها، وحتى الحوت – ليُصلُّون على مُعلِّمي الناس الخير»[4]، فإن قيل: ما وجه استغفار الحوت للمُعلم؟
والجواب هو: أنَّ نفْع العِلم يعمُّ كلَّ شيء حتى الحوت، فإن العلماء عرَفوا بالعِلم ما يحلُّ وما يَحرُم، وأوصوا بالإحسان إلى كل شيء حتى إلى المَذبوح والحوت، فألهَم الله الكلَّ الاستغفارَ لهم؛ جزاءً لحُسنِ صَنيعِهم.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سلَك طريقًا يَلتمِس فيه عِلمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة»[5]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فضْل العالم على العابد كفضْل القمر ليلة البدر على سائر الكواكِب، وإن العلماء ورَثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا؛ وإنما ورَّثوا العِلم، فمَن أخذَ به، أخذ بحظٍّ وافر»[6].
جـ- طلب العِلم فريضَة:
روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «طلب العِلم فريضة على كل مسلم»[7]، اختلف الناس في ذلك: هل هو علم الفقْه؛ إذ به يُعرَف الحَلال والحرام؟ أم هو عِلم الكتاب والسنَّة؛ إذ به يُتوصَّل إلى العلوم كلِّها؟ أم هو علم الإخلاص وآفات النُّفوس؟ أم هو علم الكلام؟
والصَّحيح – كما قال العلماء -:
“أنه عِلم مُعامَلة العبد لربِّه” والمُعامَلة التي كُلِّفها على ثلاثة أقسام:
الأول: اعتِقاد:
فأول واجب عليه تَعلُّم كلمتَي الشهادة، وفهْم معناهما، وإن لم يُحصل ذلك بالنظر والدَّليل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اكتفى مِن أجلاف العرب بالتَّصديق مِن غير تعلُّم دليل، ثم يجب عليه النظر والدليل فإذا خطَر شكٌّ في المعاني التي تدلُّ عليها كلمتا الشهادتَين، وجَب عليه أن يتعلَّم ما يصل به إلى إزالة الشكِّ.
الثاني: فعل:
إذا جاء وقت الصلاة، وجب عليه تعلُّم الطَّهارة والصلاة، فإذا عاش إلى رمضان وجب عليه تعلُّم الصوم، فإذا كان له مال وحال عليه الحول، وجب عليه تعلُّم الزكاة، وإن جاء وقت الحجِّ وهو مستطيع وجب عليه تعلُّم المناسِك.
الثالث: ترك:
فهو بحسب ما يتجدَّد من الأحوال،؛ إذ لا يجب على الأعمى تعلُّم ما يَحرُم النظر إليه، ولا على الأبكَمِ تعلُّم ما يَحرُم مِن الكلام، فإن كان في بلد يُتعاطى فيه شرب الخمر ولبس الحرير، وجب عليه أن يَعرِف تحريمَ ذلك، ويَنبغي أن يتعلم الإيمان بالبعث والجنة والنار، هذا العلم الذي يتعيَّن وجوبه على الشخْص سمَّاه العلماء: “العلم الذي هو فرْض عين”، ومعنى ذلك أن هناك “العلم الذي هو فرض كفاية”، فما هو؟
أما فرض الكِفاية، فهو كل عِلم لا يُستغنَى عنه في قوام أمور الدنيا كالطبِّ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان على الصحَّة، والحِساب فإنه ضروري في قسمة المواريث والوصايا وغيرها، فهذه العلوم لو خلا البلد عمن يقوم بها، حرِج أهلُ البلد، وإذا قام بها واحد، كفى وسقط الفرض عن الباقِين، ويدخُل في ذلك أيضًا عِلم الفلك، والفضاء، وعلوم صناعة الأسلحة المتطوِّرة، فإنه يجب على بعض الدول الإسلامية أن تَمتلِكها، وقال العلماء: إن هناك علومًا مُباحة، كالعِلم بالأشعار التي لا سُخفَ فيها، وتواريخ الأخبار، وقد يكون بعضها مذمومًا؛ كعلم السحر، هناك أيضا علم المُعامَلة “علم أحوال القلوب“؛ الخَوف والرجاء والرِّضا والصِّدق والإخلاص وغير ذلك، فهذا العِلم ارتفع به كبار العُلماء، وبتحقيقِه اشتهرت أذكارهم.
قال الحسن البصري: إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخِرة، البصير بدينه، المُداوِم على عبادة ربه، الوَرِع، الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم [8].
[1] “مختصر منهاج القاصدين”؛ لابن قدامة المقدسي. [2] رواه البخاري ومسلم. [3] رواه الإمام أحمد وابن ماجه. [4] رواه مسلم. [5] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. [6] رواه أحمد في “العلل”، وهو حديث حسن بطرقه؛ كما قال المزي. [7] حسنه السيوطي بمجموعه، وصححه الألباني. [8] “مختصر منهاج القاصدين”؛ لابن قدامة المقدسي.
____________________________________________________________
الكاتب: حسام العيسوي إبراهيم
Source link