منذ حوالي ساعة
وظهرت في بلاد المسلمين العديد من التيارات الفكرية التي تدعو لفهم النصوص الشرعية من غير رجوعٍ إلى العلماء المتخصصين في علوم الشريعة
الله سبحانه خلقنا وهو أعلم بما يُصلحنا في أمور ديننا ودنيانا، {﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾} [المائدة: 49، 50]، وقد ظهر بين المسلمين أقوامٌ يسعون إلى فصل حكم دين الله عن حكم الدنيا، ويزعمون أن الله يُشرِّع للدين، والإنسان يُشرِّع للدنيا، وهذا ضلال مبين، حيث جعلوا هناك مشرِّعين متعددين، والتشريع حق لله وحده، وخلاصة الإسلام شيئان:
عبادة الله وحده، وتحكيم شرعه في جميع أمور الدين والدنيا، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك، كما قال الله تعالى: {﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ } [يوسف: 40]، وكما لا يرضى الله بعبادة غيره لا يرضى بتحكيم غير شريعته كما قال سبحانه: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وأمرنا الله أن نَرُدَّ جميع خلافاتنا الدينية والدنيوية إلى كتابه وسنة رسوله فقال عز وجل: { ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ } [النساء: 59]، وأمرنا الله بالإيمان كإيمان الصحابة واتباع سبيلهم بإحسان، فهم أول المؤمنين من هذه الأمة، قال سبحانه مخاطبًا الصحابة الذين عاصروا تنزيل القرآن الكريم: {﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ } [البقرة: 137]، وقال عز وجل: {﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ } [التوبة: 100]، وقال تبارك وتعالى: {﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾} [النساء: 115].
وظهرت في بلاد المسلمين العديد من التيارات الفكرية التي تدعو لفهم النصوص الشرعية من غير رجوعٍ إلى العلماء المتخصصين في علوم الشريعة، ولا يتقيدون بفهم القرآن والسنة على طريقة السلف الصالح من المفسرين والمحدثين والفقهاء، بل يتلاعبون بنصوص القرآن والسنة، ويُحرِّفون معانيهما بما يوافق أهواءهم، ويَدْعُون إلى الفوضى الفكرية التي يسمونها حرية الأفراد في الرأي والتعبير، والخوض في كل شيء ولو في غير تخصصهم، ويَدْعُون إلى حرية الاعتقاد ولو بالكفر بالقرآن والسنة، ورفض أحكام الشريعة أو بعضها!
وظهر لهؤلاء المتلاعبين بنصوص الشريعة أقوالٌ شاذةٌ، وضلالاتٌ شنيعة، مخالفين سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين الذين أمرنا الله بالإيمان كإيمانهم، واتباع سبيلهم، ويتبع هؤلاء الزائغون المتشابهات ابتغاء الفتنة للناس، وابتغاء تحريف شريعة الله سبحانه، وبعضهم وصل به الحال إلى الزندقة ومحاربة الشريعة، والخروج من الإسلام بدعوى الحرية! «﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾» [النور: 40].
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى … فأولُ ما يجني عليه اجتهادُه
وبعضهم يستدل على فصل الدين عن أمور الدنيا بحديث: (( «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» )) [رواه مسلم في صحيحه (2363)] ، وسبب ورود هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يُلقِّحون النخل، يجعلون الذكر في الأنثى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا» ))، فتركوا التلقيح، فنَقَصَتِ الثمرة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (( «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ))، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (18/ 12): “هو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم”، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (( «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» )) [ رواه مسلم] ، فالشريعة جاءت بما يُصلِح الناس في دينهم ودنياهم، وتبيح لكل فرد أن يجتهد في الأمور الدنيوية الخاصة والعامة بما ينفع، فله أن يبني بيته مثلًا بالشكل الذي يُناسبه، ويزرع مزرعته بما يفيده، ويصنع ويخترع ما ينفع الناس، ويصنع طعامه بالطريقة التي يريدها ولو لم يُسبق إليها، فأمور الدنيا لا حرج على من أحدث فيها ما ينفع نفسه وينفع الناس، ولا حرج شرعًا في الاختراعات الدنيوية النافعة، والأصل في المعاملات الدنيوية أنها مباحة، ولا يحرم منها إلا ما حرَّم الله ورسوله، والأصل في العبادات أنها توقيفية لا يجوز منها إلا ما أذِنت به الشريعة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ))، (في أمرنا هذا) أي: في ديننا، أما أمور الدنيا فلا حرج في فعل ما يُصلِحنا فيها مما لا يخالف الشريعة، ومن أجاز مخالفة الشريعة في الأمور الدنيوية فقد عصى الله ورسوله، {﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾} [الأحزاب: 36].
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة – 1 (18/ 27): “حديث: ( «أنتم أعلم بأمر دنياكم» ) صحيح، رواه مسلم في صحيحه، ومعناه: أن الناس أعلم بأمور دنياهم وتصريفها، كالزراعة وأنواع الصناعة والخياطة والتجارة، وأشباه ذلك، مع مراعاة حكم الشرع في كل شيء”.
وجاء في كتاب شبهات حول السنة لعبد الرزاق عفيفي (ص: 55): “الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال: أنا أعلم بأمور دنياكم، بل نفى أنه أعلم بأمور الدنيا منهم، نفى هذا في مسألة النخيل وفي غيرها، فالشؤون التي تتصل بالدنيا هم فيها أعلم، وإنما يعلم منها ما أوحى الله به إليه”.
وقال ابن عثيمين كما في مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26/ 11، 12): “من المعلوم أن الذي ورَّثه الأنبياءُ هو علم شريعة الله عز وجل، وليس غيره، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما ورَّثوا للناس علمَ الصناعات وما يتعلق بها”.
فالأمور التي ترجع إلى الخبرة والتجربة والشؤون الدنيوية كأمور الطب والزراعة والهندسة والصناعات المتنوعة ونحو ذلك الناس أعلم بها، وهم مأمورون شرعًا أن يفعلوا ما يصلحهم وينفعهم مما لا يخالف الشريعة، فأمور الدنيا خاضعة لأحكام الشرع، ولا يجوز مخالفة الشريعة في الأمور الدنيوية، فقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله وحذَّر من مخالفة أمره فقال سبحانه: {﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾} [النور: 63]، فما حرَّمه الله ورسوله مما يتعلق بأمور الدين أو الدنيا لم يُحرَّم إلا لمصلحتنا، فإن الله ورسوله لا يُحرِّمان إلا ما فيه مفسدة عظيمة، ولا يأمران إلا بما فيه مصلحتنا في ديننا ودنيانا، والله أحكم الحاكمين، شرع لنا ما يصلحنا في أمور الدين والدنيا، وأطول آية في القرآن هي آية المداينة في أمر المال والتجارة، ومما حرمه الله ورسوله من أمور الدنيا: الربا والقمار والزنا والتبرج والغش في البيوع وموالاة الكفار، فلا يجوز أن نخالف الشريعة في ذلك بدعوى أننا أعلم بأمور دنيانا!
ومما شرعه الله ورسوله في أمور الدنيا: أحكام الزواج والطلاق والمواريث والبيوع والإجارة والأطعمة والقضاء ونحو ذلك، فلا يجوز مخالفة شريعة الله في ذلك بدعوى أننا أعلم بأمور دنيانا!
أما أمور الدنيا التي لا تخالف الشريعة كالصناعات المتنوعة والزراعة والطب والهندسة والتكنولوجيا والتقنية وأنواع التجارات المباحة والتراتيب الإدارية وتنظيم مرور السيارات والملاحة الجوية والبحرية وغير ذلك من الأمور الدنيوية التي نحن مأمورون بالاجتهاد في فعلها بما يُصلِحنا، ومأمورون بالتعاون في إنجاحها وتطويرها، قال الله تعالى: {﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾} [المائدة:2]، وقال عز وجل: {﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾} [التوبة:105]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «(احرِص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجَز)» .
Source link