إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
قال الإمام مسلم في صحيحه حديث رقم (2361): حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وأبو كامل الجَحدري، وتقاربا في اللفظ، وهذا حديث قُتيبة قالا: حدثنا أبو عَوانة عن سِمَاك عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عُبيد الله رضي الله عنه قال: «مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: ((مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟)) فقالوا: يُلقِّحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيَلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا))، فأُخبِروا بذلك فتركوه، فأُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ((إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))» ، فمسلمٌ روى هذا الحديث عن شيخيه قُتيبة بن سعيد وأبي كامل الجحدري، وذكر لفظ حديث قُتيبة، ولم يذكر لفظ حديث أبي كامل، وقد وجدتُ لفظ حديث أبي كامل في مسند البزار، قال البزار حديث رقم (937): حدثنا أبو كامل الجحدري قال: حدثنا أبو عوانة عن سِماك بن حرب عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل فرأى قومًا في رءوس النخل يُلقِّحون فقال: ((مَا تَصْنَعُونَ أَوْ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟))، قال: يأخذون من الذكر ويجعلون في الأنثى، فقال: ((مَا أَظُنُّ هَذَا يُغْنِي شَيْئًا))، فبلغهم ذلك فتركوه، فصار شِيصًا، فقال: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، وَإِنِّي قُلْتُ لَكُمْ ظَنًا ظَنَنْتُهُ، فَمَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى))، وهذا اللفظ الذي رواه أبو كامل الجحدري يقارب اللفظ الذي رواه قتيبة كما قال الإمام مسلم رحمه الله، ثم روى مسلم (2362) من طريق النضر بن محمد قال: حدثنا عِكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو النجاشي قال: حدثني رافع بن خَديج قال: قدِم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُلقِّحون النخل فقال: ((مَا تَصْنَعُونَ؟)) قالوا: كنا نصنعه، قال: ((لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا)) فتركوه، فنفَضَت، فذكروا ذلك له، فقال: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ))، قال عكرمة: أو نحو هذا. ثم روى مسلم (2363) من طريق الأسود بن عامر قال: حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يُلقِّحون فقال: ((لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ))، فخرج شِيصًا، فمر بهم فقال: ((مَا لِنَخْلِكُمْ؟!)) قالوا: قلت كذا وكذا، قال: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)).
وهذه الرواية الأخيرة رواها مسلم من طريق حماد بن سلمة، وحماد بن سلمة إذا روى عن ثابت البُناني فحديثه عنه صحيح، فحماد بن سلمة أوثق أصحاب ثابت البناني، وهذه الرواية رواها حماد عن ثابت إلا أنه جمعها مع روايته عن هشام، وبحمد الله وجدت لفظ الروايتين منفصلتين من طريق حماد بن سلمة، قال الإمام أحمد في مسنده (12544): حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصواتًا فقال: ((مَا هَذَا؟))، قالوا: يُلقِّحون النخل، فقال: ((لَوْ تَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ لَصَلُحَ))، فتركوه فلم يلقحوه، فخرج شِيصًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا لَكُمْ؟))، قالوا: تركوه لِما قلتَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))، وقال البزار في مسنده المسمى البحر الزخار (18/ 99): حدثنا عمرو بن علي قال: حدثني عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا فقال: (مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟))، قالوا: النخل يُؤبِّرونه، فقال: (لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ)، فأمسكوا عنه، فصار شِيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إِذَا كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ، وَإِذَا كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ). قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها غير حماد بن سلمة، وقد رواه غير حماد عن هشام عن أبيه مرسلًا. انتهى كلام البزار، فحديث عائشة مُعَلَّ، فقد رواه غير واحد مرسلًا من غير ذكر عائشة، وهو الصواب كما قال الدارقطني، ففي علل الدارقطني (8/ 187) ما نصه: “رواه حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة، وخالفه خالد بن الحارث ومحاضر وغيرهما، رووه عن هشام عن أبيه مرسلًا، وهو الصواب”.
فتبين أن حديث حماد عن هشام عن عروة عن عائشة هو بمعنى حديث حماد عن ثابت عن أنس، إلا أن حديث عائشة الصحيح فيه أنه مرسل، وحديث حماد عن ثابت البناني عن أنس صحيح، وقد روى حديث حماد عن هشام وعن ثابت بالجمع بينهما غير واحد، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) المذكورة في صحيح مسلم من طريق أسود بن عامر عن حماد، فروى أبو يعلى الموصلي (3480) وابن حبان في صحيحه (22) من طريق شيخه أبي يعلى الموصلي، قال أبو يعلى: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع أصواتًا فقال: ((مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟)) قالوا: النخل يأبرونه، فقال: ((لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ))، فأمسكوا فلم يأبروا عامهم، فصار شِيصًا، فذُكِر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ، وَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))، ورواه أبو يعلى أيضًا (3531) من طريق شيخه زُهَير عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس، وعن حماد عن هشام عن عروة عن عائشة بنفس السياق السابق، وفيه: (إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ، وَإِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ)، ورواه كذلك تمَّام الرازي في فوائده (1167) من طريق عبد الله بن جعفر العسكري عن عفان عن حماد كما رواه أبو يعلى وابن حبان سندًا ومتنًا.
فتبين بجمع طرق الحديث أن هذه اللفظة: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) تفرد بها أسود بن عامر عن حماد بن سلمة، فلم تُذكر بلفظها في روايات الحديث الأخرى عن حماد، وإنما ذكرها أسود بن عامر عن حماد بن سلمة، وروى الحديث عن حماد: عفان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث وعبد الله بن جعفر العسكري، كلهم عن حماد عن ثابت عن أنس وعن هشام عن عروة عن عائشة، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، لكن تابع الأسود بن عامر متابعة تامة على رواية هذه اللفظة بمعناها راويان ثقتان، هما محمد بن كثير العَبدي وهُدبة بن خالد البصري، فروى الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1722) قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال: حدثنا محمد بن كثير العبدي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم في رءوس النخل، فقال: (مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟)، قالوا: يؤبرون النخل، قال: (لَوْ تَرَكُوهُ لَصَلُحَ)، فتركوه، فشِيص، فقال: ((مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))، وروى البزار في مسنده (6992) قال: حدثنا هُدبة بن خالد قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتًا في النخل فقال: ((مَا هَذَا؟))، قال: يُؤبِّرون النخل، فقال: ((لَوْ تَرَكُوهَا لَصَلُحَتْ))، فتركوها فصارت شِيصًا، فأخبروه بذلك فقال: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، فَأَمَّا أَمْرُ آخِرتِكُم فإِليَّ))، فتبين بهذا أن الرواة الثلاثة: أسود بن عامر ومحمد بن كثير وهُدبة بن خالد رووا الحديث عن حماد بن سلمة بهذه الألفاظ على الترتيب: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) و (ما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمر دنياكم) و (أنتم أعلم بما يُصلِحكم في دنياكم)، وهي بمعنى اللفظ الذي رواه أحمد في مسنده (12544) عن عبد الصمد عن حماد عن ثابت عن أنس مرفوعًا بلفظ: ((إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))، وتقدم أن حمادًا لم يتفرد بهذا اللفظ في قصة تأبير النخل، فقد رواه البزار في مسنده (937) من طريق أبي كامل الجحدري قال: حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بلفظ: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ))، وتقدم أن مسلمًا روى حديث طلحة هذا عن شيخيه قتيبة بن سعيد وأبي كامل الجحدري، فذكر لفظ حديث قتيبة، ولم يذكر لفظ حديث أبي كامل اختصارًا، وتبين أن لفظ حديث أبي كامل: (أنتم أعلم بما يُصلِحُكم في دنياكم) يشهد لحماد بن سلمة في روايته الحديث بلفظ: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، فكلا الروايتين بمعنى واحد ولفظ متقارب، فلا يصح تعليل حديث: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) بتفرد حماد بن سلمة بهذا اللفظ كما ذهب إليه العلامة المحدث المعلِّمي اليماني في الأنوار الكاشفة (ص: 29) وتابعه على ذلك بعض الباحثين المعاصرين، والله أعلم.
ويوجد حديث آخر عن حماد بن سلمة فيه نحو هذه اللفظة، قال أحمد بن حنبل في مسنده (22546): حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن رَبَاح عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، فذكر حديثًا طويلًا في قصة نومهم عن صلاة الفجر، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ كَانَ أَمْرَ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ، وَإِنْ كَانَ أَمْرَ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))، وقد روى هذا الحديث غير واحد عن ثابت كحماد بن زيد وسليمان بن المغيرة، ورواه غير واحد عن عبد الله بن رباح كبكر بن عبد الله المزني وخالد الحذاء وسليمان الشيباني، ورواه عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وكلهم لم يذكروا في روايتهم هذه الزيادة التي ذكرها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة، يُنظر: المسند المصنَّف المعلَّل (29/ 169، 170)، فيُحتمل أن يكون حماد بن سلمة حفظ هذه الزيادة، وتكون زيادة ثقة مقبولة، لا سيما وقد رواها حماد عن ثابت، وهو أوثق أصحابه، ويُحتمل أن تكون زيادة شاذة؛ لأن أكثر الرواة لم يذكروها في حديث أبي قتادة، ويكون حماد بن سلمة وهِم في هذه اللفظة، ودخل عليه حديثٌ في حديث، والله أعلم.
والذين ضعفوا هذه اللفظة التي في صحيح مسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ذكروا أن من عادة مسلم في صحيحه أنه يُقدِّم غالبًا الرواية الأصح، وإن كان في بعض الروايات علة فإنه يُؤخِّرها ويذكرها في آخر الباب في الشواهد، قال المحدث عبد الرحمن المعلِّمي في كتابه الأنوار الكاشفة (ص: 29): “عادة مسلم أن يرتِّب روايات الحديث بحسب قوتها، يُقدِّم الأصح فالأصح”، وفي هذا الباب ذكر مسلم أولًا حديث طلحة بن عبيد الله، وهو أصل الباب، وليس في إسناده أي علة، ثم ذكر حديث رافع بن خَدِيج، وفي إسناده عكرمة بن عمار، وهو كما قال الحافظ ابن حجر: “صدوقٌ يغلط”، وذكروا في ترجمته أنه لم يكن معه كتاب يكتب فيه الأحاديث عن شيوخه، فكثرت أغلاطه، وروى له مسلم غالبًا في الشواهد كهذا الحديث الذي صرح فيه عكرمة بأنه رواه بالمعنى حيث قال: أو نحو هذا، ثم ختم مسلمٌ الباب بحديث أسود بن عامر عن حماد بن سلمة، وحماد بن سلمة ثقة متقن في حديثه عن ثابت البُناني، وأحاديثه التي رواها عن غير ثابت البناني قد يغلط فيها، قال مسلم في كتابه التمييز (ص: 218): “حماد إذا حدَّث عن غير ثابت يخطئ كثيرًا”، وقال البيهقي: “حماد بن سلمة أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبِر ساء حفظُه، فلذا تركه البخاري، وأما مسلمٌ فاجتهد وأخرج من حديثه عن ثابت البُناني ما سُمِع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا أخرجها مسلم في الشواهد”، وقال يحيى بن معين: “حماد أعلم الناس بثابت”، وقال علي بن المديني: “لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة”، وقال الذهبي: “حماد بن سلمة إمام صدوق له أوهام”، يُنظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (7/ 253 – 269)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 11 – 16)، ورسالة من تكلم فيه وهو موثق للذهبي (ص: 70)، والكواكب النيرات فيمن اختلط من الثقات لابن الكيال (ص: 460).
قال المعلمي في الأنوار الكاشفة (ص: 29): “قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة: ((ما أظن يغني ذلك شيئًا)) إخبار عن ظنه، وكذلك كان ظنه، فالخبر صدق قطعًا، وخطأ الظن ليس كذبًا، وفي معناه قوله في حديث رافع: ((لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا))، وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد؛ لأن حمادًا كان يخطئ، وقوله في حديث طلحة: ((فإني لن أكذب على الله)) فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ؛ لأن السياق في احتمال الخطأ، وامتناعه عمدًا معلوم من باب أولى، بل كان معلومًا عندهم قطعًا”.
فهذا ما يتعلق بحديث: (أنتم أعلم بأمر ديناكم) رواية ودراية، وقد تبين مما سبق أن حماد بن سلمة لم يتفرد برواية هذا اللفظ، فقد رواه بعض الرواة بنحو هذا اللفظ، وقد جاء هذا الحديث بلفظ: ((إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))، وبلفظ: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، وبلفظ: (أنتم أعلم بما يُصلِحكم في دنياكم)، وكلها بمعنى واحد، وهو معنى صحيح، وتقدم أن سبب ورود هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يُلقِّحون النخل، يجعلون الذكر في الأنثى فيَلْقَح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا))، فتركوا التلقيح، فنَقَصَتِ الثمرة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «((إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))» ، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (18/ 12): “هو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم”، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة – 1 (18/ 27): “حديث: «(أنتم أعلم بأمر دنياكم)» صحيح، رواه مسلم في صحيحه، ومعناه: أن الناس أعلم بأمور دنياهم وتصريفها، كالزراعة وأنواع الصناعة والخياطة والتجارة، وأشباه ذلك، مع مراعاة حكم الشرع في كل شيء”. وقال عبد الرزاق عفيفي في كتاب شبهات حول السنة (ص: 55): “الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال: أنا أعلم بأمور دنياكم، بل نفى أنه أعلم بأمور الدنيا منهم، نفى هذا في مسألة النخيل وفي غيرها، فالشؤون التي تتصل بالدنيا هم فيها أعلم، وإنما يعلم منها ما أوحى الله به إليه”. وقال ابن عثيمين كما في مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26/ 11، 12): “من المعلوم أن الذي ورَّثه الأنبياءُ هو علم شريعة الله عز وجل، وليس غيره، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما ورَّثوا للناس علمَ الصناعات وما يتعلق بها”.
وبهذا يتبين أن حديث: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) لفظه صحيح، ومعناه صحيح، فالأمور التي ترجع إلى الخبرة والتجربة والشؤون الدنيوية كأمور الطب والزراعة والهندسة والصناعات المتنوعة ونحو ذلك الناس أعلم بها، وهم مأمورون شرعًا أن يفعلوا ما يصلحهم وينفعهم مما لا يخالف الشريعة، فأمور الدنيا خاضعة لأحكام الشرع، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله وحذَّر من مخالفة أمره فقال سبحانه: {﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾} [النور: 63]، فما حرَّمه الله ورسوله مما يتعلق بأمور الدنيا لم يُحرَّم إلا لمصلحتنا، فإن الله ورسوله لا يحرمان إلا ما فيه مفسدة عظيمة، ولا يأمران إلا بما فيه مصلحتنا في ديننا ودنيانا، والله أحكم الحاكمين، ولا يجوز مخالفة الشريعة في الأمور الدنيوية، وأطول آية في القرآن هي آية المداينة، ومما حرمه الله ورسوله من أمور الدنيا الربا والقمار والزنا والتبرج والغش في البيوع وموالاة الكفار، فلا يجوز أن نخالف الشريعة في ذلك بدعوى أننا أعلم بأمور دنيانا!
ومما شرعه الله ورسوله في أمور الدنيا أحكام الزواج والطلاق والمواريث والبيوع والقضاء ونحو ذلك، فلا يجوز مخالفة شريعة الله في ذلك بدعوى أننا أعلم بأمور دنيانا!
أما أمور الدنيا التي لا تخالف الشريعة كالصناعات المتنوعة والزراعة والطب والهندسة والتكنولوجيا والتقنية وأنواع التجارات المباحة والتراتيب الإدارية وتنظيم مرور السيارات والملاحة الجوية والبحرية وغير ذلك من الأمور الدنيوية التي نحن مأمورون بالاجتهاد في فعلها بما يُصلِحنا، ومأمورون بالتعاون في إنجاحها وتطويرها، قال الله تعالى: {﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾} [المائدة:2]، وقال عز وجل: {﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾} [التوبة:105]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ» )) كما في صحيح مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالشريعة جاءت بما يُصلِح الناس في دينهم ودنياهم، وتبيح لكل فرد أن يجتهد في الأمور الدنيوية الخاصة والعامة بما ينفع، فله أن يبني بيته مثلًا بالشكل الذي يُناسبه، ويزرع مزرعته بما يفيده، ويصنع ويخترع ما ينفع الناس، ويصنع طعامه بالطريقة التي يريدها ولو لم يُسبق إليها، فأمور الدنيا لا حرج على من أحدث فيها ما ينفع نفسه وينفع الناس، ولا حرج شرعًا في الاختراعات الدنيوية النافعة، والأصل في المعاملات الدنيوية أنها مباحة، ولا يحرم منها إلا ما حرَّم الله ورسوله، والأصل في العبادات أنها توقيفية لا يجوز منها إلا ما أذِنت به الشريعة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( «(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))» ، (في أمرنا هذا) أي: في ديننا، أما أمور الدنيا فلا حرج في فعل ما يُصلِحنا فيها مما لا يخالف الشريعة، ومن أجاز مخالفة الشريعة في الأمور الدنيوية فقد عصى الله ورسوله، {﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾} [الأحزاب: 36].
Source link