إذا مررتم برياض الجنة.. فارتعوا

خير أعمال المسلمين وأزكاها، وأطهرها وأعلاها، وأشرفها قدراً عند الله تعالى، وأجلها مكانة عنده ذكر الله عز وجل؛ كذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال:  ( «ألا أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكمْ، وأزكاها عندَ مليكِكِمْ، وأرفعها في درجاتِكُم، وخير لكم من إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخير لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى. قالَ: ذِكرُ اللَّهِ)» [رواه الترمذي وحسنه ابن حجر وصححه الألباني والمنذري].

ذكر الله صدقة بلا مال، وجهاد بلا قتال، ومرابطة بلا انتقال، وهو عند الله من أكبر الأعمال: {{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}} (العنكبوت:45).

فلما كان للذكر هذا الفضل وتلك المكانة، كان لمجالسه الرفعة على بقية المجالس، حتى شبهها النبي صلى الله عليه وسلم برياض الجنة؛ ورغب في الجلوس فيها فقال: «(إذا مررتُم برياضِ الجنةِ فارْتَعوا. قالوا: وما رِياضُ الجنَّةِ؟ قال: حلَقُ الذِّكرِ)» .. حسنه الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث المشكاة، والألباني في صحيح الترغيب وغيره.

من أقبل عليها أقبل االله عليه، ومن أوى إليها آواه الله إليه، ومن أعرض عنها أعرض الله عنه.. في الصحيحين من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «(بينما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجدِ، فأقبَل ثلاثةُ نفَرٍ، فأقبَل اثنانِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وذهَب واحدٌ: فأما أحدُهما فرأى فُرجَةً فجلَس، وأما الآخَرُ فجلَس خلفَهم، فلما فرَغ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ألا أُخبِرُكم عنِ الثلاثةِ؟ أما أحدُهم فأوى إلى اللهِ فآواه اللهُ، وأما الآخَرُ فاستَحيا فاستَحيا اللهُ منه، وأما الآخَرُ فأعرَض فأعرَض اللهُ عنه)» [متفق عليه].
وما أكثر المعرضين في هذا الزمان عن مجالس الذكر، والزاهدين في حلق العلم.

مفهوم حلق الذكر ومجالسه
إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، وإذا رأيتم مجالس الذكر فاجلسوا واسمعوا..
واعلموا أن مجالس الذكر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ليست محصورة ولا مقصورة في الجلوس للتسبيح والتحميد والتهليل وذكر الله. مع فضلها وجلالها.. ولكن حلق الذكر ومجالسه أوسع من ذلك.

حلق الذكر هي حلقات تحفيظ القرآن، وتعلم تجويده، ومدارسة أحكامه.
هي دروس الفقه، وتعلم الأحكام، والحلال والحرام، والأمر والنهي، والشرع والدين.
هي مجالس الوعظ والتذكير بالآخرة والجنة والنار والثواب والعقاب.
هي خطب الجمعة، ودروس المساجد، والكلمات بعد الصلوات، تدل على الله وتعرف بأسمائه وصفاته.
حلق الذكر هي كل مجلس فيه حياة للقلب، وزكاة للنفس، وتعليم للدين، وزيادة الإيمان، وذكر للرحمن، وبيان حقيقة الدنيا، وسبيل السعادة والفلاح فيها وفي الآخرة.

فضائل ومنافع
هذه المجالس رغب النبي صلى الله عليه وسلم أمته في حضورها والجلوس فيها وبين فضائلها ومنافعها.. فمما ذكر عليه الصلاة والسلام من فضلها:
تنزل السكينة والرحمة على أهلها:
وهي مجالس تتنزل على أهلها السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده؛ كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ)» ، وفي رواية: «(لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة… الحديث)» ، فلم يشترط المسجد.

يباهي الله بأهلها ملائكة السماء
ففي صحيح مسلم عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة» (رواه مسلم).
يقول الإمام النووي رحمه الله: “قوله: (إن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)، معناه: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم”.

مجالس مغفرة
ومجالس الذكر مجالس عفو ومغفرة، يغفر الله لأهلها ذنوبهم، ولمن حضرها معهم وإن لم يكن منهم، ببركة جلوسه معهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم،كما ذكر ذلك أبو هريرة رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «(إنَّ للهِ ملائكةً سيَّاحين في الأرض فُضْلًا عن كُتَّابِ الناسِ، يطوفون في الطُّرُقِ، يلتمسون أهلَ الذِّكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون اللهَ تنادوا: هَلُمُّوا إلى حاجاتِكم، فيَحفُّونهم بأجنحتِهم إلى السماءِ الدنيا، فيسألهم ربُّهم، وهو أعلمُ منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يُسبِّحونك، ويُكبِّرونك، ويحمَدونك، ويمجِّدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا واللهِ ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادةً، وأشدَّ لك تمجيدًا، وأكثرَ لك تسبيحًا، فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنَّةَ، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا واللهِ يا ربِّ ما رأوها، فيقول: فكيف لو أنهم رَأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حِرصًا، وأشدَّ لها طلبًا، وأعظمَ فيها رغبةً، قال: فمم يتعوَّذون؟ فيقولون: من النَّار، فيقولُ اللهُ: هل رأوها؟ فيقولون: لا واللهِ يا ربِّ ما رَأوها، فيقول: فكيف لو رأَوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشدّ منها فرارًا، وأشدَّ لها مخافةً، فيقول: فأُشهدِكُم أني قد غفرتُ لهم، فيقولُ ملكٌ من الملائكةِ: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ! فيقول: هم القومُ لا يَشْقى بهم جليسُهم)» [رواه الترمذي وقال حسن صحيح].
ومعنى [فُضْلًا عن كُتَّابِ الناسِ]، أي: زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق، فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، إنما مقصودهم حلق الذكر. قاله النووي في شرح مسلم.

تبديل سيئات أهلها حسنات:
وليس المغفرة فقط من فضائل هذه المجالس الطيبة المباركة، وإنما كذلك يبدل الله سيئات أصحابها حسنات، تكرما منه عليهم، وثوابا منه لهم على حضورهم هذه المجالس الزاكيات، وقد ورد الحديث بذلك وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع وصحيح الترغيب والترهيب عن سهل بن الحنظلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(ما جلس قومٌ مجلسًا يذكرون اللهَ عزَّ وجلَّ فيه فيقومون؛ حتى يُقالَ لهم: قوموا قد غفر اللهُ لكم، وبُدِّلَتْ سيِّئاتِكم حسناتٌ)» .
وأخرج مثله البيهقي عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«(ما جلس قومٌ يذكرون اللهَ عزَّ وجلَّ إلا ناداهم منادٍ من السماءٍ: قومُوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلَتْ سيئاتُكم حسناتٍ)» .

ذكر الله لهم
وهو أعلى المطالب وأغلى الفضائل، أن يذكرك الله تعالى وهو من هو وأنت من أنت، قال تعالى: {{فاذكروني أذكركم}} (البقرة:152).
وسبق في الحديث:
«(إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)» .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«(قال اللهُ تبارَك وتعالى: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيثُ يذكُرُني: إنْ ذكَرني في نفسِه ذكَرْتُه في نفسي، وإنْ ذكَرني في مَلَأٍ ذكَرْتُه في مَلَأٍ خيرٍ منهم)» .

مكانته وفضله في الآخرة
هذا كله في الدنيا، وأما فضلهم في الآخرة وجزاؤهم:
أهل الذكر هم أهل الجنة:
فقد روى الإمام أحمد والمنذري وغيرهما بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال:
«(قلتُ يا رسولَ اللهِ ما غنيمةُ مجالسِ الذِّكرِ؟ قال: غنيمةُ مجالسِ الذِّكرِ الجنَّةُ)» [صححه المنذري والهيثمي والألباني].

هم أهل الكرم يوم القيامة
فقد روى ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «(يقولُ اللهُ جلَّ وعلا: سيعلَمُ أهلُ الجمعِ اليومَ مَن أهلُ الكرَمِ. فقيل: مَن أهلُ الكرَمِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: أهلُ مجالِسِ الذِّكرِ في المساجِدِ)» .

وجوههم نور، على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الخلائق
فإذا كان يوم القيامة جعل الله وجوههم نورا، وأجلسهم على منابر اللؤلؤ، حتى يتمنى الناس مقامهم ومكانهم: قال صلى الله عليه وسلم: «(ليبعثَنَّ اللهُ أقوامًا يومَ القيامةِ في وُجوهِهِمُ النُّورُ، علَى منابرِ اللُّؤلؤِ، يغبِطُهُمُ النَّاسُ، لَيسوا بأنبياءَ ولا شُهداءَ. قال: فَجثَا أعرابيٌّ على رُكبتَيْهِ؛ فقالَ: يا رسولَ اللهِ! جَلِّهِم لنا نَعرِفْهمْ. قال: همُ المتحابُّونَ في اللهِ، مِن قبائلَ شتَّى، وبلادٍ شتَّى، يجتَمِعونَ على ذِكرِ اللهِ يَذكرونَه)» .

فإذا كان لمجالس الذكر كل هذه الفضائل، فحري بالمسلم أن يسارع إليها، ويكون من أهلها، وينتسب إلى أصحابها لينال من فضائلها وبركاتها.
وساعة الذكر فاعلم ثروة وغنى .. .. وساعة اللهو إفلاس وفاقات
نسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين، ويحبب إلينا مجالس ذكره، ويجعلنا ممن ينال أجرها وثوابها في الدنيا والآخرة.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *