رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم)

إن الرحمة فضيلة إسلاميَّة تدل على قوة صاحبها ونُبله، وتقديره لمشاعر الآخرين، ومعاونتهم والتخفيف عنهم، ولِين الجانب لهم، وقد بلَغ منها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الدرجة القُصوى

إن الرحمة فضيلة إسلاميَّة تدل على قوة صاحبها ونُبله، وتقديره لمشاعر الآخرين، ومعاونتهم والتخفيف عنهم، ولِين الجانب لهم، وقد بلَغ منها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الدرجة القُصوى، فكان – صلى الله عليه وسلم – رحيمًا بالكبير والصغير، بالرجال والنساء، حتى بالحيوانات والطيور، وبكل ما يحيط به، وصدق الله العلي العظيم إذ يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال – سبحانه -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، إلى غير ذلك من الآيات التي تُثبت صفة الرحمة في أرْوَع صُوَرها وأعلاها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم.

 

وجاءت السنة النبوية مؤكِّدة هذا المعنى بالأدلة والشواهد التي تدلُّ على أن رحمته – صلى الله عليه وسلم – اتَّسعت حتى شمِلت جوانب عديدة، ومن تلك الأمثلة:

ما ورد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قبَّل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحسنَ بن علي وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: «مَن لا يَرحم، لا يُرحم»[1].

وما ورَد عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: تُقَبِّلون الصِّبيان؟ فما نُقبِّلهم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أوَأمْلِك لك أن نزَع الله من قلبك الرحمة» ؟!))[2].

وذكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن الرحمة صفة من صفات الله تعالى، وأنه على الناس أن يتراحَموا فيما بينهم:

فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمِعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسَك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَم الخَلقُ، حتى تَرفَع الفرس حافرَها عن ولدها؛ خشية أن تُصيبه»[3].

 

ومن رحمته – صلى الله عليه وسلم – بأصحابه أنه كان يتعهَّدهم بالموعظة؛ فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: “كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا”[4].

 

أي: إنه – صلى الله عليه وسلم – كان يعِظ الصحابة في حين بعد حينٍ، لا في كل حين.

 

وعن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»[5].

 

وأنه – صلى الله عليه وسلم – ما خُيِّر بين أمرين قط، إلا أخَذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعدَ الناس منه، وما انتقَم – صلى الله عليه وسلم – لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تُنتهك حُرمة الله، فينتَقم بها لله”[6].

 

أي: كان – صلى الله عليه وسلم – يتلقَّى الناس بوجهٍ بَشوش، ويُباسطهم بما لا يُنكره الشرع، أو يُرتكَب فيه الإثم.

 

وكان – صلى الله عليه وسلم – أحسنَ الأُمة أخلاقًا، وأبسطهم وجهًا؛ لذلك كان – صلى الله عليه وسلم – يُلاطف أصحابه بطلاقة الوجه والمُزاح، ويتواضع معهم، ويَزورهم، ويُداعب صغارهم؛ فهذا أنس – رضي الله عنه – كان له أخٌ صغير، كان له طائر صغير، فمات الطائر، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُلاطفه كلما رآه بقوله: «يا أبا عُمَير، ما فعَل النُّغَير» ؟[7].

 

• ومِن صُوَر رحمته – صلى الله عليه وسلم – بالخَدم: ما رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: خدَمت النبي – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين، فما قال لي: أُفٍّ، ولا: لِمَ تَصنع؟ ولا: ألاَ صَنعت”[8].

 

• ومن رحمته – صلى الله عليه وسلم – بأنس – رضي الله عنه – أنه كان يناديه قائلاً: «يا بني»؛ أي: إنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة[9].

 

ومما يؤكد هذا المعنى: ما ورَد في الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “ما ضرَب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء قطُّ، فينتَقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيءٌ من محارم الله – عز وجل – فينتَقم لله”[10].

• وتبلغ الرحمة أيضًا مَداها، فيُنكر على مَن يدعو قائلاً: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا تَرحم معنا أحدًا؛ كما ثبت عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في صلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهمَّ ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للأعرابي: «لقد حجَّرت واسعًا»[11].

فرحمة الله – عز وجل – واسعة وَسِعت كلَّ شيء.

 

ولم تَقتصر رحمته – صلى الله عليه وسلم – على البشر، بل امتدَّت لتشمل الحيوانات والطيور، وكل ذات كبدٍ رَطْبة.

 

فهذا أبو هريرة – رضي الله عنه – يروي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «بينما رجل يمشي بطريقٍ، اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرِب ثم خرج، فإذا كلب يَلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلَغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلَغ بي، فنزل البئر، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفِيه، فسقى الكلب، فشكَر الله له، فغفَر له»، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال – صلى الله عليه وسلم -: «في كل ذات كبدٍ رَطْبة أجْر»[12].

 

وأخبر أن امرأة دخلَت النار في هِرَّة حبسَتها، فلم تُطعمها، ولم تَدَعها تأكل من خَشاش الأرض[13].

 

ونهى – صلى الله عليه وسلم – مَن همُّوا بإحراق قرية النمل، وأنكر على من أخَذ أفراخ الطيور من أُمهاتها، وأمرهم بردِّها إليها، فقد ثبت عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفرٍ، فانطلَق لحاجته، فرأينا حُمَّرة – طائر صغير كالعصفور أحمر اللون – معه فرخان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الحُمَّرة، فجعلت تَفرُش، فجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «مَن فجَّع هذه بولدها؟! ردُّوا إليها ولدها»، ورأى قرية نمل قد حرَّقناها، فقال: «مَن حرَّق هذه» ؟، قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنار إلا ربُّ النار»[14].

 

وأخبر – صلى الله عليه وسلم – بأن مَن لا يَرحم لا يُرحم، وأن الرحمة لا تُنزع إلا من شقي، وبشَّر – صلى الله عليه وسلم – الراحمين بالرحمة من الله تعالى.

 

فقال – صلى الله عليه وسلم -: «إنما يَرحم الله – عز وجل – من عباده الرحماء»[15].

 

وقال – صلى الله عليه وسلم -: «الرحم شِجْنَة، فمَن وصَلها وصَلتُه، ومن قطَعها قطَعتُه» [16].

 

إلى غير ذلك مما لا يتَّسع المجال هنا لاستقصائه، فصلى الله وسلَّم على نبي الرحمة والهدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 


[1] رواه البخاري 5997، مسلم 2318.

[2] رواه البخاري 5998، مسلم 2317.

[3] رواه البخاري 6000، مسلم 2752.

[4] رواه البخاري 68، مسلم 2821.

[5] رواه البخاري 69، مسلم 1734.

[6] رواه البخاري 3560، مسلم 2327.

[7] رواه البخاري 6129، مسلم 2150.

[8] رواه البخاري 6038 مسلم 2309.

[9] رواه مسلم 2151 عن أنس – رضي الله عنه.

[10] رواه مسلم 2328.

[11] رواه البخاري 6010

[12] رواه البخاري 2363 ، مسلم 2244.

[13] رواه البخاري 3318، مسلم 2242، عن ابن عمر – رضي الله عنهما.

[14] رواه أبو داود (2675- 5268) عن ابن مسعود – رضي الله عنه – وصححه الألباني في الصحيحة 25.

[15] رواه البخاري 1284، مسلم 923 عن أسامة بن زيد – رضي الله عنه.

[16] رواه البخاري 5989، مسلم 2555 عن عائشة – رضي الله عنها.

____________________________________________

الكاتب: د. محمد بن عبدالسلام


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *