منذ حوالي ساعة
“من يتَّقِ الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضِلُّ”.
إن الإنسان يعيش في هذه الحياة الدنيا، وهو يأمُلُ أن يشمله الله سبحانه برعايته وحفظه، ويدفع عنه شرور الدنيا، وأذى الخَلْقِ، ووساوس الشيطان، ولا شكَّ بأن هذا الحفظَ الربانيَّ للعباد لا يكون إلا بأخذ العبد بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك؛ وهي: أن يحفظ العبد ربَّه في قوله وعمله وسائر تصرفاته في الحياة ومعاملاته مع الناس؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «يا غلامُ، إني أعلمك كلماتٍ: احفَظِ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»؛ (رواه الترمذي وأحمد، وصححه الألباني)؛ أي: احفظ حدود الله وحقوقه، وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تجده أمامك»، وفي رواية: «تجده تجاهك»، معناه: أنَّ مَن حفِظ حدود الله، وجد الله معه في جميع الأحوال؛ يحوطه وينصره، ويحفظه ويؤيده ويسدده، فإن الجزاء من جنس العمل.
ومن أسباب حفظ الله للعبد: الدعاء؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودَّع من يريد السفر يقول له: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك»، وفي رواية وكان يقول: «إن الله إذا استُودِع شيئًا حفِظه»؛ (أخرجه النسائي).
ومن أسباب حفظ الله للعبد: المحافظة على الأذكار الواردة في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، فالذِّكْرُ بلا شك حصنٌ حصين، وحِرْزٌ مكين، لا يدرك أهميته إلا ذوي البصائر؛ قال ابن القيم رحمه الله: “أذكار الصباح والمساء بمثابة الدرع، كلما زادت سماكته، لم يتأثر صاحبه، بل تصل قوة الدرع أن يعود السهم فيصيب من أطلقه”، ويقول ابن عثيمين رحمه الله: “أذكار الصباح والمساء أشدُّ من سور يأجوج ومأجوج في التحصُّن، لمن قالها بحضور قلب”.
وتأمل هذا الحديث الذي يرويه لنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم؛ ثلاث مرات، لم تُصِبْهُ فجأة بلاء حتى يُصبِحَ، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي»؛ (صحيح أبي داود)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لقِيتُ من عقرب لدغتني البارحة، فقال: أمَا إنك لو قلت حين تمسي: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك إن شاء الله تعالى»؛ (رواه مسلم).
عباد الله: حِفْظُ الله لعباده الصالحين يمتد إلى جوانب شتى، وله صور كثيرة متعددة، ولكن أعظم هذه الصور على الإطلاق هي حفظ الله تعالى للعبد في دينه وصلاحه واستقامته، هذا النوع هو أعظم أنواع الحفظ وأفضلها، وأهمها وأعلاها على الإطلاق؛ قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
ومن حِفْظِ الله تعالى لعبده المؤمن: أن يحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفَّاه على الإسلام؛ قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].
ومن حِفْظِ الله تعالى لعبده المؤمن في دينه؛ أن يحفظَه من الشُّبُهات والشهوات، فمن حفظ الشبهات أن يُرِيَه الحقَّ حقًّا ويرزقه اتِّباعَه، وأن يريه الباطل باطلًا ويرزقه اجتنابه؛ ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعو به صلاة الليل: «اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»؛ (صحيح مسلم).
ومن حفظ الشهوات ما يصرفه تعالى عن عبده المؤمن من الوقوع في الشهوات المحرَّمة؛ قال تعالى عن يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، وفي حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّمه أن يقول: «اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تُطِع فيَّ عدوًّا ولا حاسدًا»؛ (رواه الحاكم، وحسنه الألباني)، ففيه سؤال الله أن يجعله متمسكًا بالإسلام في كل أحواله.
ومن صور حفظ الله للعبد: أن يحفظه في صحته وقوته وعقله؛ قال بعض السلف: “العالم لا يخرَفُ”، وقال بعضهم: “من جمع القرآن مُتِّع بعقله”، وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بعقله وقوته، فوثب يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعُوتِب على ذلك فقال: “هذه جوارح حفِظناها عن المعاصي في الصغر، فحفِظها الله علينا في الكِبَرِ”.
ومن صور حفظ الله للعبد: حفظه في أولاده وأمواله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه ولده وولد ولده؛ كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]؛ قال ابن عباس: “حُفِظا بصلاح أبويهما”، قال محمد بن المنكدر: “إن الله يحفظ بصلاح العبد ولدَه وولدَ ولدِه، وعِتْرَتَه وعشيرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم”، قال سعيد بن المسيب: “إني لَأُصلِّي فأذكر ولدي فأزِيد في صلاتي”.
ومن صور حفظ الله لعبده: حفظه من أذى الجن والإنس، فيحفظه من شر كل من يريده؛ قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]؛ قال مجاهد: “ما من عبدٍ إلا وله مَلَكٌ مُوكَّل به، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوامِّ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك، إلا شيء يأذَن الله فيه فيصيبه”، وقال كعب الأحبار: “لولا أن الله عز وجل وكَّل بكم ملائكةً يذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، لَتَخَطَّفكُمُ الجنُّ”.
أيها المسلمون: ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله حفظ الصلاة؛ وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ومدح الله المحافظين عليها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، وكذلك المحافظة على الطهارة؛ فإنها مفتاح الصلاة؛ قال النبي صلي الله عليه وسلم: «ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»؛ (ابن ماجه، وصححه الألباني).
فمن حافظ على الصلاة حفِظَهُ الله؛ وفي الحديث: «إذا أحْسَنَ الرجل الصلاةَ فأتمَّ ركوعها وسجودها، قالت الصلاة: حفِظك الله كما حفِظتني، فتُرفع، وإذا أساء الصلاة، فلم يتم ركوعها وسجودها، قالت الصلاة: ضيَّعك الله كما ضيَّعتَني، فتُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوب الخَلَقِ، فيُضرب بها وجهه»؛ (حسَّنه الألباني).
ومما يُؤمَر بحفظه الأَيمانُ؛ قال الله عز وجل: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]؛ أي: حفِظها عن الحَلِفِ بالله كاذبًا، وحفِظها عن كثرة الحَلِفِ.
ومن الأشياء المأمورين بحفظها: حفظ الرأس والبطن عن المحرَّمات، وهذا مفهوم التقوى، وفي الحديث الذي حسنه الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فَلْيَحْفَظِ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى»، فيدخل في حفظ الرأس حفظُ السمع والبصر واللسان، والبطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الحسد والحقد، والكِبْرِ والشحناء، ويتضمن أيضًا حفظ البطن عن إدخال الحرام إليها من المأكل والمشرب.
ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل: حفظ اللسان والفَرْجِ، وحفظ اللسان عن الغِيبة والنميمة، والكذب والكلام الفاحش، وحفظ الفَرْجِ من الزنا والفواحش؛ قال صلى الله عليه وسلم قال: «من يَضْمَنْ لي ما بين لَحْيَيْهِ، وما بين رجليه، أضمن له الجنة»؛ (رواه البخاري)، وفي رواية: «من حفِظَ ما بين لَحْيَيْهِ ورجليه»؛ (الحاكم).
إذا حفِظتَ الله في جوارحك، ووجَّهتها في طاعة الله، وأبعدتَها عن الحرام، حفِظك الله تعالى؛ قال قتاده: “من يتَّقِ الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضِلُّ”.
فيا سعادة من بذل أسباب نَيلِ حِفْظِ الله له في دينه وأهله، ودنياه وأُخراه، ولعلنا في هذا المقام أن نذكر بعض النماذج التي نالت حفظ الله وحَظِيَت به؛ ومن ذلك:
حفظ الله لنبيه يونس عليه السلام يسقط في البحر، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142]، في ظلمة جوف الحوت، وفي ظلمة أعماق البحر، وظلمة الليل، وهذا عدو الله فرعون سقط في البحر أيضًا، وارتطمت عليه أمواج البحر، فدعا يونس عليه السلام ربَّه، ودعا فرعون ربه، دعا يونس؛ {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، ثم يجيء الجواب الإلهي من رب العزة والجلال لنداء الاثنين، فكيف كان الجواب؟ أما نبي الله يونس عليه السلام؛ فجاء الجواب: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88].
وحفظه سبحانه لخليله إبراهيم عليه السلام حينما أوقد له النمرود بن كنعان تلك النارَ الهائلة، وقذفه فيها، وهو مُوثق بالأربطة، ووقع فيها، فلم تُصِبْهُ بأذًى؛ لأن النار خَلْقٌ من خَلْقِ الله تعالى، ولا تحرق إلا بإرادته؛ فقال سبحانه وتعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فكانت بردًا وسلامًا، وخرج منها يمشي على رجليه، لم تأكل له ثوبًا ولا شعرًا، فضلًا عن لحمه وعظمه.
وكذا حفظ الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه يوم الهجرة؛ قال تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40].
أيها المسلمون: تذكَّروا أن الشُّبُهات والشهواتِ والفتنَ تحيط بنا من كل جانب، وهذه سُنَّة الحياة، فاحفظوا الله يحفظكم الله، وتذكروا أن الجزاء من جنس العمل، فمن حفِظَ الله، حفِظَه في نفسه وأهله وماله، وسائر حياته، فاللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بركنك الذي لا يُرام، واغفر لنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا، يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا ممن يتوكلون عليك حقَّ التوكل، واحفظنا بالإسلام وأدِمْ علينا نعمة الإيمان، هـــذا، وصلُّوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين، واخذُل أعداءك أعداء الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
Source link