وقد أدرك المسلمون الأوَّلون قيمة العلم ومنزلته وضرورته في سعادة الأُمم والأفراد؛ إذ كانوا أُمة أُميَّة لا تقرأ ولا تكتب، فجدُّوا في محْو أُميَّتهم بكل الوسائل، حتى أطلقوا سَراح الأسير إذا هو علَّم عددًا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.
لم يُخلَق الإنسان في هذه الحياة ليَعبث أو ليلهو، ولم يُخلق ليطغى بقوَّته وجبروته، ويستبد قويُّه بضعيفه، وإنما خُلِق ورُكِّب فيه ما رُكِّب من قوى العلم والإدراك، وآلات العمل والإنتاج، وسُخِّر له الكون في أرضه وسمائه، ومائه وهوائه لحِكمة سامية تُعبِّر عن جلال الله وجماله، وهي أن يكون خليفة في الأرض، يَعمُرها ويعمل على إصلاحها، واتِّساع عمرانها، وإظهار أسرار الله فيها، وإقرار الخير والسعادة في نواحيها، وبذلك تكون مظهرًا لرحمة الله بعباده، وآية من آيات قُدرته وحِكمته.
وقد أرشد إلى هذه الحكمة كثيرٌ من آيات القرآن؛ منها: قوله – تعالى – وهو يحدِّث عن مبدأ خلق الإنسان: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 30 – 33].
فتجلَّت للملائكة حكمة استخلاف الإنسان في الأرض، واعترَفوا له بالمكانة التي أُعدَّت له في هذه الحياة، ومن ذلك قوله – تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]، ومن ذلك قوله – تعالى -: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، وقوله: ﴿ {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وإذا كانت هذه هي مهمة الإنسان في الحياة، وهي حكمة خلْقه، وحكمة الإنعام عليه بقوى العلم والعمل، وحكمة تَسخير الكون وإخضاعه له في التفكير والتصريف – فإنه لا سبيل إلى قيامه بهذه المهمة وتحقيق تلك الحِكَم، إلا إذا تحصَّن بالعلم؛ ليَعرف الخير من الشر، والنافع من الضار، والمُعمِّر من المُخَرِّب، وتحصَّن كذلك بالصحة؛ ليَكْمُل عقْله، ويَسْلَم تدبيره، وتتَّصل جهوده.
فالمعرفة والصحة عنصران لا بد منهما في قيام الحياة على الوجه الذي يحقِّق حكمة الخالق في الخلق، وليس في الحياة شيء إلا وهو محتاج إليهما، متوقِّف عليهما، وليس فيما نعلم مُقوِّضًا لأصل السعادة، وقاضيًا على الهناءَة، ومُفكِّكًا لعُرى التعاون، ومُضَيِّعًا للعزة والسلطان – مثل الجهل والمرض؛ فهما بحقٍّ أصلُ البلاء ونذير الاضمحلال والفناء.
ومن هنا عُنِيَ الإسلام عناية كاملة بالإرشاد إلى الوسائل التي تُطهِّر المجتمع من الجهل، والتي تُطهِّره من المرض، فهو قد حارب الجهل وتتبَّعه في كل وكْرٍ من أوكاره، وفي كل لونٍ من ألوانه؛ حارَب جهْل الشِّرك بالتوحيد، وبثَّ في النفس والآفاق دَلائلَه، ولفَت الإنسان إليها، وحثَّه على النظر والتفكير فيها؛ ليؤمن بأن العظمة التي يخضع لها ليستْ لأحدٍ سواه، فلا تَعترضه في طريق الكمال ما يَنسجه الإنسان حوله من صور العظَمات الزائفة.
حارَب جهالة التقليد، وأنكر على الإنسان أن يُسلِم عقله لغيره، وأن يَقف في عقائده ومعارفه ووسائل الحياة عند ما خلفه الآباء والأجداد من الأوهام والخُرافات.
حارَب جهالة الأُميَّة، وأوحى بتعلُّم القراءة والكتابة، ورفَع من شأن التعلُّم، ولا بد هنا من وقفة يسيرة لنرى مبلغ عناية الإسلام بمَحو الأُميَّة والإرشاد إلى وسيلته، وحسبنا في ذلك أن يكون أول نداءٍ إلهي يَفتتح به الله – باسْم “الربوبيَّة” – وَحْيَه إلى نبيِّه محمد – صلى الله عليه وسلم – تلكم الآية الكريمة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5].
يأمر بالقراءة، والقراءة سُلَّم المجد، وطريق العلم والمعرفة، ثم يرشد إلى الاستعانة عليها باسم “الرب” مُفيض التربية ووسائلها على جميع الخَلق، فيَشعر الإنسان بعزَّة شأنها ورِفْعة قدرها، وأنها من الشؤون العظمى ذات البال والخطَر، ثم يذكُر خلْقه وتكوينه في هذا المقام، ويُردفه بنِعمة العلم؛ {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 – 5]، وبذلك يُسوِّي بين نعمة الخلْق والإيجاد، ونعمة العلم، ويكون ذلك إيحاءً بأن المخلوق الجاهل لا اعتداد بوجوده في هذه الحياة.
وتنويهًا بشأن القلم ومكانته في العلم والمعرفة، يُقْسم به الله في مَعرض تَبرئة الرسول – عليه السلام – من أفدح التُّهم الباطلة التي ألصَقها القوم به – عليه السلام – وهي تُهمة الجنون؛ {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 – 2].
وكما يَطلب القراءة على الإطلاق دون تقييدٍ بمقروء مخصوص، يطلب العلم والنظر على الإطلاق دون تقييدٍ بمعلوم مخصوص، أو منظورٍ مخصوص؛ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، ويرشدنا هذا الإطلاق إلى أن [العلم] في نظر القرآن ليس خاصًّا بعلم الشرائع والأحكام من حلالٍ وحرام، وإنما العلم في نظره هو كل إدراك يُفيد الإنسان توفيقًا في القيام بمهمَّته العظمى التي أُلْقِيت على كاهله منذ قدر خَلْقه، وجعل خليفةً في الأرض، وهي عمارتها، واستخراج كنوزها، وإظهار أسرار الله فيها.
• فإدراك ما يَصلُح به النبات ويَنمو ويُثمر، وما تُستنبَت به الأرض وتحيا – عِلْمٌ.
• وإدراك ما يصلح الحيوان ويَستمر به نسْله، وتتَّصل قوَّته – علمٌ.
• وإدراك الطرق المشروعة التي تحصِّل الأموال، والتي تنظم بها مواردها ومصارفها – علمٌ.
• وإدراك موارد الصناعة على اختلاف أنواعها وكيفيَّاتها وتوزيعها – علمٌ.
• وإدراك الأمراض وعالَمها، وكيفية علاجها وطُرق الوقاية منها – علمٌ.
• وإدراك ما تعرفه الأُمم من وسائل الدفاع والهجوم؛ حفظًا للأوطان، ودفعًا للعدوان بما يُرهبهم – علمٌ.
وقد جاء الإيحاء بهذا كله واضحًا جليًّا في القرآن الكريم، وبه كان العلم – بمعناه العام الشامل – العنصرَ الأول من عناصر الحياة في نظر الإسلام.
وقد أدرك المسلمون الأوَّلون إيحاء القرآن في كل ذلك، فأدرَكوا قيمة العلم ومنزلته وضرورته في سعادة الأُمم والأفراد؛ إذ كانوا أُمة أُميَّة لا تقرأ ولا تكتب، فجدُّوا في محْو أُميَّتهم بكل الوسائل، حتى أطلقوا سَراح الأسير إذا هو علَّم عددًا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وجعلوا تعليم القرآن مهْرًا في الزواج، وأطلقوا لأنفسهم سراحَ النظر في الكائنات، فأدركوا منها ما يُسعدهم في الحياة، ويجعلهم أئمَّة يَهدون بأمر الله.
رفَعوا بالعلم مكانةَ الخامل، وكان فيما بينهم نسَبَ الوضيع، وغنى الفقير، وقوَّة الضعيف، وفي بطون التاريخ والمكتبات الإسلامية والعالمية – من المؤلفات والمترجمات في شتى العلوم والفنون والصنائع، وجميع فروع العلم والمعرفة – ما يَشهد لهم بالتركيز العلمي، ويشهد لكل جيلٍ بمنهجه في علمه ومعارفه التي وصَل إليها بجهوده وتفكيره، دون الوقوف عند ما ترَك السابقون، بل نظروا وبحثوا، واختاروا واختبروا وابتكروا، وبذلك اقتَعدوا مكانة الأستاذية العامة المُطلقة، وكانوا حقًّا جديرين بأن يكونوا كما وصف الله: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، تَسلك إلى الخير طريقه، وتَسدُّ دون الشر سبيلَه.
هذه مكانة العلم في بناء المجتمع كما يُقرِّرها القرآن ويوحي بها، وإني أرجو أن يكون الزمان قد هيَّأ نفسه ليستدير بالمسلمين كهيئته الأولى، وأن يكونوا – بما وقَعوا فيه من إحَنٍ ومِحَنٍ – قد تكامَلت في نفوسهم عواملُ اليقظة والوعي، وآمَنوا بأن عزة أسلافهم وعزة الناس من حولهم، كان العلم أوَّل عناصرها وأقواها، وآمنوا بأن الذِّلة وتهافُت الأُمم عليهم التي نُكِبوا بها، كان الجهل والتلهِّي بالشخصيات والنظريات، والجدليَّات والفروض الوهميَّة، والأوهام والخيالات، والعناية بما يُكنُّه الغيب عن طريق الدجَل – كان كل ذلك أولَ عناصرها وأقواها.
وإني لأُحِسُّ إحساسًا قويًّا بأن النهضة العلمية آخذة – بإخلاص القائمين بها، المُشرفين عليها، الفاهمين لها – طريقها إلى ما يَمحو الأُميَّة، ويُحقق للأمة الخير والسعادة، ويَرد آخِرها إلى أوَّلها، فننعم بما نَعِموا، ونَسعَد بما سعِدوا، ونَخلع ما نحن فيه من ذُلٍّ وشقاء، وتكون العزة كما يحب الله: [لله ولرسوله وللمؤمنين].
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمود شلتوت
Source link