أخي الحبيب، هل تريد أن يُنَفّس كربُك ويزولَ همُك؟ فرِّج كربات للمساكين.. هل تريد التيسير على نفسك؟ يسِّر على المعسرين.. هل تريد أن يستر الله عليك؟ استر على عباد الله والجزاء من جنس العمل
الحمد لله الملك الجبار العزيز الغفار وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبعه بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد:
فأوصيكم ونفسيَ الخاطئةَ بتقوى الله تعالى، فهي العاصم من القواصم، وهي المنجية من المهالك ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.
عباد الله: من منا يسلم من الهم أو الغم؟! لا أحد.
من منا يضمن لنفسه أو لولده السلامة من البلايا والأمراض؟! لا أحد.
من منا يضمن بقاء ما أنعم الله عليه من النعم؟! لا أحد، فدوام الحال من المحال.
أتحدث معكم اليوم عن سعادة غامرة ولذة شديدة تجدونها في أنفسكم، وعن فرحة عامرة تدخل عليكم وأنتم في وقت الأزمات، عن أمرٍ تجدون لذته في الحياة، ثم بعد الممات أتدرون عمّا سأحدثكم.
سأحدثكم اليوم عن التفريج عن أهل الحاجات والتنفيس عن أصحاب الكربات، فمن نفّس عن مؤمنٍ كُربة من كُرب الدنيا نفّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة.
نعم، إن الفقر والغنى والسعادة والشقاء والصحة والمرض وكل ما يعتري الإنسان في حياته من خيرِ أو شر بقدرٍ من الله تعالى؛ لماذا إنه البلاء والاختبار لكي يخرج من العبد عند السراء عبادة الشكر، وعند الضراء عبادة الصبر. فالإيمان نصفان: نصفٌ صبر ونصفٌ شكر.
قال تعالى عن نفسه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. فالأمر كله لله، والملك كله لله، فقد جرَت سنة الله تبارك وتعالى في البشر أن جعل بعضهم لبعضٍ سُخريّاً، لا تتم لهم سعادتهم إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف والمودة فيما بينهم. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ.
ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، ولا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يعترفون لغيرهم بحق.
أيها المسلمون:
عزيزٌ على النفس الكريمة المؤمنة أن ترى مسكيناً بَليتْ ثيابه حتى تكاد تُرى عورته، أو تبصر حافيَ القدمين أدمت حجارة الأرض أصابعه وقطعت عقبيه، أو تلحظ جائعاً يمدُّ عينيه إلى شيءِ غيرِه فينقلب إليه البصر وهو حسير.
حين تفشو مثلُ هذه الأحوال، ثم لا يكترث القادرون، ولا يهتمُّ الموسرون فكيف يكون الحال؟ وأين وازع الإيمان؟!
ولكنَّ الله برحمته حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، وجَّههم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلُّق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
وقد ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم» (انظر: السلسلة الصحيحة «4/264، 265- ح1692).
إذا كنت في نعمةٍ فأرعهــا ** فإن المعاصي تُزيل النعم
وحافظ عليها بتقوى الإله ** فإن الإله سريع النقــــــم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: «ما من عبدٍ أنعم الله عليه نعمةً وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال» (رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. انظر: مجمع الزوائد «8/192»)..
أخي الحبيب، هل تريد أن يُنَفّس كربُك ويزولَ همُك؟ فرِّج كربات للمساكين.. هل تريد التيسير على نفسك؟ يسِّر على المعسرين.. هل تريد أن يستر الله عليك؟ استر على عباد الله والجزاء من جنس العمل.
ففي الخبر الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (رواه مسلم).
وفي الصحيحين أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (أخرجه البخاري ومسلم).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «من رفَق بعباد الله: رفَق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن ستَرهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه».
يقول ابن رجب رحمه الله: أُثر عن بعض الصالحين قوله: «والله الذي لا إله إلا هو! إنه كان عندنا قومٌ ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وكانت لهم عيوب، فلما ستروا عيوب الناس ستر الله عيوبهم، وإنه كان عندنا قوم ليس لهم عيوب فكشفوا عيوب الناس فأحدث الله لهم عيوباً، فالجزاء من جنس العمل».
عباد الله:
إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها؛ إذ التفريج إزالتها، أما التنفيس فهو تخفيفها، والجزاء من جنس العمل، فمن فرّج كُربة أخيه فرّج الله كربته، والتنفيس جزاؤه تنفيسٌ مثله.
والتيسير على المعسر في الدنيا جزاؤه التيسير من عُسْر يوم القيامة، وحسبك في يومٍ قال فيه ربُّ العزة: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9- 10].
وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة فليُنفّس عن مُعسر أو يضع عنه، ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه».
والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
ومن القصص العجيبة ما ذكره الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى، المدرس بالحرم النبوي، أن امرأةً في المدينة كان لها جيران من النسوة العجائز، وكانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها، وفي أحد الأيام وقع لها حادث حينما كانت تسير في ضواحي المدينة المنورة، فسقطت في حفرة متصلة بمجرى الماء، فسحبها الماء تحت الأرض، وقدّر الله لها أن تمسك بحجر في هذا المجرى، ومكثت عالقة بهذا الحجر تحت الأرض أربعة أيام، وبعد هذه الأيام، مرّ رجل بالمكان فسمع صوتَ استغاثةٍ ضعيفاً، فلما عرف مصدر الصوت، نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟! فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كلَّ يوم. والجزاء من جنس العمل.
عبد الله..
تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.. واعلم أن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين.. وأنَّ الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافقت إخلاصًا من المتصدق وحاجة عند الفقير وصدق القائل:
إن للمعروفِ أهـــــلاً ** وقليلٌ فاعلـــــــوهُ
أهنأُ المعروفِ: ما لَم ** تُبتذل فيه الوجوهُ
جاء في بعض الآثار أن رجلاً من الصالحين عرض له وزير فاجر فحكم عليه بعذابٍ مهين، فلما كان الوزير ينام في الليل قبل أن ينفذ هذا الحكم كان ينتفض خائفاً من المنام، فينام وإذا بامرأة تشير أمامه في المنام بقطعة خبز، وإذا بهذا الرجل الذي حكم عليه الوزير جالس هناك، كلما أراد الوزير أن يعمد إليه وإذا بهذه المرأة تمنع الوزير بقرص من الرغيف، وبعد ثلاث ليال ما كان ينام فيها، استدعى الرجل وقال: أسألك بالله! قال: لماذا؟ قال: رأيت رؤيا أريدك أن تخبرني بها؟ قال: وما هي، قال: بعدما حكمت عليك وأودعتك السجن وأردت أن أنفذ عليك العقوبة رأيت كأن عجوزاً تحول بيني وبينك برغيف وكأنك جالس هناك، قال: أما وقد سألتني فو الله ما نمت ليلة إلا وقرص خبز عند رأسي كانت تصنعه أمي وتجعله عند رأسي، فإذا أتى الصباح تصدقت به على المساكين، فلما كبرت وحضر أمي الموت، قالت: يا بني! لا تترك الوصية، قلت: ماذا؟ قالت: هذا الرغيف لا تتركه أبداً، اصنع رغيفاً واجعله عند رأسك وأعطه المساكين، فإن الله يمنعك فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء قال: فو الله ما مرت عليَّ ليلة وأردت أن أنام إلا ووضعت هذا الرغيف عند رأسي وأعطيه المساكين، قال الوزير: والله لا تمسك مني عقوبة أبداً، ثم عفا عنه.
ولقد قال بعض الحكماء: «أعظم المصائب أن تقدر على المعروف ثم لا تصنعه».
والغبطة – أيها المسلمون – فيمن يسَّر الله له خدمة الناس وأعانه على السعي في مصالحهم.
وإن دروب الخير – أيها المسلمون – كثيرة وحوائج الناس متنوعة؛ إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ.. عيادة مريضٍ، وتعليم جاهل.. وإنظار معسر، وإعانة عاجز، وإسعاف منقطع.. تطرد عن أخيك هماً، وتزيل عنه غماً.. تكفل يتيماً، وتواسي أرملة.. تكرم عزيز قومٍ ذلَّ، وتشكر على الإحسان، وتغفر الإساءة.. تسعى في شفاعة حسنة تفك بها أسيراً، وتحقن بها دماً، وتجرُّ بها معروفاً وإحساناً.
فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمةٍ طيبةٍ وإلا.. فكُفَّ أذاك عن الناس.
لما سُئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إلى الله وأحبِّ الأعمال إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: «أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجته أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا ـ أي: المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بألف صلاة، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظمَ غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزولُ الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل » (رواه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألباني في الصحيحة).
وخيرُ عباد الله: أنفعهم لهم ** رواه من الأصحاب كلُّ فقيــهِ
وإن إله العرش جلّ جلالُــه ** يُعينُ الفتى ما دامَ عون أخيهِ
عباد الله:
سيد أهل المعروف وإمامهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يتأخر عن تفريج كربات أصحابه، فكم قضى لهم من ديون، وكم خفف عنهم من آلام، وكم واسى لهم من يتيم، وفوق ذلك مات ودرعه مرهونة بأبي هو وأمي.
يُعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، بل رُبما أنفق غنمًا بين جبلين. ما قال لا إلا في واحدة هي لا اله إلا الله.
هو البحر من أي النواحي أتيته ** فلُجَّتُه المعروف والجود ساحله
تراه إذا ما جئته متهــــــــــــللاً ** كأنك تُعطيه الذي أنت سائلـــــه
تعوّد بسط الكف حتى لو انـــه ** أراد انقباضاً لم تُطعه أناملــــــــه
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ** لجاد بها فليتق الله سائلـــــــــــه
فهنيئًا لمن يسارعُ في صنائع المعروف وقضاءِ حوائجِ الناس، وهنيئًا للموظف الذي يسعى لذلك ولو لم يكن من صميم عمله، وهنيئًا لمن كان سبباً في مساعدة محتاج أو تنفيس كربة مكروب مهموم، هنيئًا لمن شفع شفاعة حسنة له أجرها وبرّها في الدنيا والآخرة، فكلُّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة» (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب).
نعم أيها الإخوة:
كل معروف صدقة، والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفاً أو تقضي به حاجة وتدخر لك به أجراً فما هو إلا لوارث أو لحادث. وصنائع البر والإحسان تُستعبد بها القلوب.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ ** فطالما استعبد الإنسان إحسانُ
إن أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراتِه عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة.
جرِّب يا أخي.. إذا طاف بك طائف من هم أو ألمّ بك غم فامنح غيرك معروفًا وأسدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة، أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعن منكوبًا، عُد مريضًا، أطعم جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك.
أما الثمرة في الآخرة، فتأمل معي هذه القصة العجيبة، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن امرأة طرقت على عائشة ل وكانت معها ابنتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل بنت تمرة، وأخذت تمرة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين، فأخذت التمرة وأعطتها لها.
فعجبت عائشة ل من رحمة هذه الأم! فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «أو تعجبين مما صنَعَت؟! إن. اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أعتقها بِهَا مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم).
وبعد عباد الله:
من عجائب أخبار السلف الصالح ما روى أهل السير عن أحمدَ بنِ مسكين أحدِ علماءِ القرن الثالث الهجري في البصرة، قال: «اُمتحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلي رُقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه يطير فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة.
يقول أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أُربّهِ بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد مُلِأَت سجلاتُ الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كُتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وُسِّعَتْ أبدانُهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسّمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنةٍ شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس، كالرياءِ والغرورِ وحبِ المحمدة عند الناس، فلم يسلمُ لي شيء، وهلكتُ عن حجتي وسمعتُ صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أُحسِنُ بمائةِ دينارٍ ضربةً واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا، فوُضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وُضعت دموع المرأة المسكينة التي بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجُح، ولا تزال ترجُح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا.
أيها الإخوة المؤمنون:
ليس للمعروف حدّ، بل لا يقتصر بذل المعروف على بني آدم، فحتى البهائم والحيوان في بذل المعروف لها أجر، فالرحمة في ديننا شملت البهائم حتى القطط والكلاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في هرّة؛ حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»، وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: «إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف في بئر قد أدلَعَ لسانه من العطش، فنزعت له موقها ـ أي: خُفها ـ فسقَته فغُفر لها».
فيا عباد الله:
إن كانت الرحمة وبذل المعروف لكلب من امرأةٍ بغي أوجب لها ما أوجب، ألا تكون الرحمة وبذل المعروف والإحسان للمسلمين أعظم وأنفع؟! فالمعروف وصنائع المعروف تثمر حتى مع البهائم العجماوات.
يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند حديثه عن الإمام القدوة العالم الجليل شيخ الإسلام في زمانه سفيان الثوري / قال: يقول أبو منصور: بات سفيان الثوري في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لابني، فقال سفيان: ما بال هذا محبوسًا؟! لو خُلّي عنه، قال: فقلت: هو لابني وهو يهبه لك، قال سفيان: لا، ولكن أعطه دينارًا، قال: فأعطاه دينارًا وأخذ البُلبُل وخلّى عنه. يقول أبو منصور: فكان البُلبُل يذهب يرعى فيجيء بالعشي ـ آخر النهار ـ فيكون في ناحية البيت، فلمّا مات سفيان الثوري تبع البلبل معنا جنازته ـ سبحان الله العظيم ـ فكان البلبل يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ليالٍ إلى قبره، فكان ربما بات عند القبر، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتًا عند قبر سفيان الثوري رحمه الله، فدُفن عنده.
هكذا يصنع المعروف مع الطير والبهائم فكيف مع بني الإنسان؟! كيف مع إخواننا المسلمين؟! إنه لأعظم أجرًا ومثوبة ونفعًا في الدنيا والآخرة.
أما الشحيح البخيل كالح الوجه يعيش في الدنيا عيشة الفقراء ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء، فلا تكن أيها الموسر القادر خازناً لغيرك.
أيها الإخوة الأحباب:
إن صفو العيش لا يدوم، وإن متاعب الحياة وكرباتها ليست حكراً على قومٍ دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير، وخذلان المسلم شيء عظيم.
والمسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة، عندما تستحكم الأنانيات وتستغلق المسالك على أصحاب الضوائق.
بل إن بعض غلاظ الأكباد وقُساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين.. يزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي، فاستدار عزهم ذلاً، وغناهم فقراً، ونعيمهم جحيماً؟.
ومن بذل اليوم قليلاً جناه غداً كثيراً.. تجارة مع الله رابحة، وقرضاً حسن مردود إليه أضعافاً مضاعفة.. إنفاقٌ بالليل والنهار والسر والعلن يقول جل شأنه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
هذا وصلوا – رحمكم الله – على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم…
Source link