المأزق المزدوج – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

ونحن في هذا المقام لا نملك إلا أن نُقدِّر جهاد وتضحيات المرابطين في فلسطين التي أدَّت إلى تغيرات كبيرة في المنطقة

الحمد لله الذي أكرمنا بهذا الدين، ومنَّ علينا أن نكون أتباعًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الذي نُصِرَ بالرعب من مسيرة شهر، ونسأل الله أن نكون ممَّن تمنَّى رؤيتهم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  خرجَ إلى المقبَرة، فقالَ: «السَّلامُ عليكُم دارَ قومٍ مُؤمنينَ، وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكُم لاحقونَ، وَدِدْتُ أنِّي قد رَأيتُ إخوانَنا» . قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ألَسنا إخوانَك؟ قالَ: «بل أنتُمْ أصحابي، وإخواني الَّذينَ لم يَأتوا بعدُ، وأَنا فرَطُهُم على الحَوض» (صحيح النسائي: ح١٥٠).

نعم، لقد ودَّ الرسول رؤية إخوانه، وهم الذين آمنوا به ولم يروه، وهذه حاله مع أتباعه على طول الزمان، ونحن بهذه الروح نتمنَّى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤية كل مَن تمنَّى رؤيته، وخاصةً من هم في زماننا، فنحن أمام نماذج تتمحص وتُمتَحن، وتقوم بالأحداث التي هي أعظم مدرسة، ففيها العداوة والخذلان، والخيانة والغدر، وفيها صدق الود، وإرادة العون.

وكل هذا لا يهمّ القائمين بالحق؛ فقد وصَفهم الرسول بصفة الثبات والتصميم؛ بحيث لا يضرّهم مَن خذلهم ولا مَن عاداهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم  في حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «لا يزال من أُمّتي أُمَّة قائمة بأمر الله، لا يضرّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» (صحيح البخاري: ح٣٦٤١).

 ونحن في هذا المقام لا نملك إلا أن نُقدِّر جهاد وتضحيات المرابطين في فلسطين التي أدَّت إلى تغيرات كبيرة في المنطقة؛ من أهمها: انكسار الكيان اللقيط، وانكشاف ضَعفه وحاجته الماسَّة للحماية، وعدم قدرة قياداته السياسية على التعامل الصحيح مع الأحداث، فتكررت التصرفات الرعناء الناتجة عن طبيعة الشخصية اليهودية المتوترة الخائفة التي يسيطر عليها الإحساس بالمظلومية، وهي في ذلك تتشابه مع الشخصية الشيعية التي يسيطر عليها أيضًا أحاسيس الظلم والاضطهاد، وبالتالي تُلاحقها عقدة الخوف من الفشل والهزيمة، حتى وهي في قمة النصر والظهور.

ولذا فإن طوفان الأقصى قد جرف كثيرًا من المُسلَّمات، وقلَب كثيرًا من المعادلات رأسًا على عقب؛ فقبل السابع من أكتوبر الماضي كانت المنطقة تشهد المراحل النهائية للخطة الأمريكية القائمة على تدبير الفوضى الخلَّاقة اعتمادًا على ركيزتين مهمتين، أو لنقل وكيلتين حصريتين:

 الركيزة الأولى: دولة الكيان الصهيوني «إسرائيل» التي اقتربت من ابتلاع كامل أرض فلسطين، وبسط الحماية والرعاية على قائمة المُطبِّعين الذين تباهَى بهم نتنياهو في كلمته التاريخية في الأمم المتحدة، وأصبحت إسرائيل واسطة العقد في المشروع الغربي لتحطيم الصين عن طريق الخنق الاقتصادي، وتبنّي الهند بديلاً في سلاسل التوريد، وهو ما ظهر على شكل إعلان طريق الهند – أوروبًا، مرورًا بالشرق الأوسط.

ولنتخيل المكاسب التي تحصل عليها إسرائيل من مرور التجارة الدولية عَبْرها، متجاوزةً بذلك قناة السويس وتركيا، ولذا يجب أن نفهم أن تحجيم إسرائيل وتقزيمها هدف إستراتيجي لكل المعادين لمشروع نفخ الهند على حساب الصين.

وأما الركيزة الأخرى للنفوذ الأمريكي في المنطقة؛ فهي إيران، التي تولَّت دورًا كبيرًا في مهمة تحطيم المجتمعات السُّنية في المنطقة، بالتعاون الوثيق والعلني مع أمريكا في أفغانستان والعراق، ولا يخفى أن دخول حزب الله وميليشيات إيران -من الفاطميين والزينبيين والحشد الشعبي والمقاومة العراقية، وهي ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان والعراق يُرَاد لها أن تكون أذرع إيران المستقبلية في بلدانها- إلى سوريا كان بالتنسيق مع أمريكا، ولا يمكن تصوُّر أن يرسل حزب الله أغلب قواته إلى سوريا بدون موافقة إسرائيلية وضمانات أمريكية.

والمحصلة أن هناك مشروعًا إيرانيًّا للتمدُّد على حساب السُّنة في منطقة نفوذ تمتد من أفغانستان وباكستان مرورًا بأذربيجان وتركيا، وانتهاءً بالعراق وسوريا ولبنان، ومحاولة اختراق فلسطين التي هي بوابة الدخول لقلوب عامة المسلمين.

ومع أن هذا المشروع يتقاطع مع «الفوضى الخلَّاقة» التي ترعاها الولايات المتحدة؛ ليقتتل الشيعة مع السُّنة، وليتنافس الوكلاء (إيران وإسرائيل)، وهو ما حصل جزئيًّا؛ فإن كلًّا من التمدُّد الإيراني والسيادة الإسرائيلية، بل وحتى قدرة أمريكا على التحكُّم والتفرُّد بإدارة المشهد تعرَّض لنكسةٍ؛ فطوفان الأقصى أدخَل المنطقة إلى مرحلة جديدة تتلخص في الآتي:

أولاً: تفرَّدت حماس بقرار الحرب، وتبعتها وسلَّمت لها كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية، واصطفت معها ميليشيات إيران في المنطقة القريبة، وبدأ الحوثيون تنفيذ مشروع السيطرة على المضائق والممرات المائية في المنطقة، تحت شعار حصار إسرائيل حتى فك الحصار عن غزة.

ثانيًا: اكتشفت إسرائيل المتخبّطة أن استمرار الحرب مع حماس ووكلاء إيران والحوثيين سيؤدي إلى ارتفاع أسهم إيران على حسابها، ولذا -وخلافًا للمخطَّط الأمريكي-، اختارت إسرائيل اعتماد خيار شمشون، وهو توسيع الحرب في الضفة ولبنان، ومحاولة جرّ إيران للحرب بصورة مباشرة، اعتمادًا على التعهدات الأمريكية بحماية إسرائيل.

ثالثًا: وجدت أمريكا وإيران نفسيهما في وضع إستراتيجي حَرِج؛ فمن جانب وجدت أمريكا نفسها تُسْحَب سحبًا إلى مستنقع صراع تَعرف مسبقًا أنها ستخوض فيها حربًا دامية تحت شعار حماية إسرائيل، وهذا الشعار في حدّ ذاته كارثي، وسيكون سببًا رئيسيًّا في خروجٍ مُذِلّ لأمريكا من المنطقة.

وأما إيران فوضعها لا يختلف عن أمريكا؛ فحماس سَحبت معها حتى من كانوا أتباعًا لإيران إلى ساحة صراع وجودي؛ فحزب الله يعرف أن تدمير حماس يعني تدميره والقضاء عليه، وكذلك الوضع مع الميلشيات العراقية التي تعتمد على قاعدة شعبية معادية لكلٍّ من أمريكا وإيران. وهنا كانت المفارقة أن إيران بدلاً من استغلال أدواتها في تنفيذ مشروعها الإستراتيجي وجدت أدواتها تسير بعيدًا عنها، بل وتجد نفسها تُجرّ جرًّا إلى صراع وجودي لم تُخطِّط له ولم تختاره؛ فكلٌّ من إسرائيل وحماس لهما مصلحة في دخول إيران المباشر.

وفي المحصلة، فإن الولايات المتحدة وإيران تعيشان نفس الورطة الإستراتيجية؛ فإسرائيل تسحب أمريكا مُكرَهةً للتدخُّل المباشر في الصراع، وعندما يضطر رئيس الأركان الأمريكي للبقاء في إسرائيل وقت عمليات حزب الله للرد على اغتيال «فؤاد شكر»، فماذا ستفعل إذا قررتَ إيران المغامرة برَدّ على اغتيال «إسماعيل هنية» في أراضيها، وهو ردّ محتمل وضروري للحفاظ على ما بنته على مرّ السنين.

والمفارقة أن الطوفان مشروع سُنّي يجرّ الشيعة خلفه جرًّا؛ فمثلاً يصرّح «حسن نصر الله» بأن «حركة حماس تتفاوض بالنيابة عن نفسها وعن الفصائل والمحور المقاوم، وإن ما تقبل به حركة حماس سنقبل به جميعًا».

وفي كلام «نصر الله» حول ردّ الحزب على اغتيال «فؤاد شكر» ذكَر أن كل طرف يردّ بصورة منفردة، وهو ما يَشِي بأنه لا يُعوِّل على الرد الإيراني.

وخطورة هذا أن الحزب سيدخل في مرحلة تحوُّل بالبحث عن داعمين آخرين، فإيران لا تُوفِّر له الحماية، فهي مشغولة بالتأكيد في صراعها الأبدي والمستمر مع اليزيديين، فتصريحات «خامئني» الأخيرة تدل على الرعب من فقدان الشيعة للبوصلة، فقوله: إن «المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة، ولا نهاية لها»؛ محاولة للتملُّص من الطوفان الذي يبدو أنه سيبتلع المشروعين الصفوي والصهيوني، والله غالب على أمره؛ فأمره نافذ، وقدَره محتوم؛ قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف: 21].


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *