فمتى تعيد الأجيال الجديدة سيرة سلفهم من أهل المعارف والثقافة والقلم؟!!
بَيْنَ الشباب العربي والأجيال التي قبله فجوة كبيرة، فجيل الشباب عنده إحساس بأن جيل الكبار عاجز عن فهم المتغيرات السريعة، وغير مواكب للتطور الثقافي، وتبدل المفاهيم، بينما يرى جيل الكبار أن الشباب العربي اليوم شباب يميل إلى الخمول، وأخذ القشور، ولا يصل إلى لباب الثقافة والعلم، إنما هو شباب لا يعرف الجد، ولا ينحت في صخر المعرفة، حتى يبني ثقافته على القناعات الراسخة التي تفيده في الدنيا وتكون زاداً له في الآخرة.
جيل الأكابر عاشوا زمن الهدوء وبطء المواصلات، ومحدودية الاتصالات، في حين يعيش الشباب عصر السرعة في التنقل والفضاء المفتوح، ووسائط التواصل التي ألغت الحواجز، واقتحمت الخصوصيات.
يزعم الشباب أن الكبار عاجزون عن التكيف مع عالم التغيرات المذهلة الذي وُلد فيه شباب تشبعوا منذ حداثتهم بروحه، فنشأوا في عالم الإنترنت والتدفق الإعلامي، ينظر الشَّباب إلى الكبار نظرة يمتزج فيها التحدي بالإشفاق، وتجمع بين الاعتزاز بالنفس ومحاولة التماس العذر للغير.
الأجيال الجديدة في واقع الأمر تمر بأزمة، ولكنها أزمة معكوسة، في هذه الأزمة يشعر الكبار بالرثاء لجيل الشَّباب، وينعون عليهم هبوط مستواهم الفكري والثَّقافي، ويعجبون كيف وصلت أجيالنا الجديدة إلى هذا الوضع العجيب الفريد؟ ولكن ما دور جيل الكبار في هذا الوضع؟
إن ثقافة الأجيال الجديدة في الوطن الْعَربي يشوبها الاضطراب والخلط وضيق الأفق، والحقيقة أن المسئول الأوَّل عن ذلك هو جيل الكبار، وأن هذه ظاهرة من أخطر الظواهر التي تهدد مستقبل العقل العربي، بل ربما كانت أخطر من كثير من الأزمات السياسية التي شغلنا أنفسنا بها أمدًا طويلًا، متغافلين عن كل ما عداها من الأزمات الاجتماعيَّة والفكرية، التي قد لا تكون صارخة كالأزمات السياسية، ولكن تأثيرها أعمق منها وأبعد في مداه إلى حد كبير.
في عصرنا الحالي تكتسب الثَّقافة العالميَّة أهمية متزايدة، ولست أعني بـ “العالميَّة” أنَّ هذه الثَّقافة لا وطن لها، بل إنَّ المقصود من اللفظ هو أنَّ هذه الثَّقافة تضم عناصر من بيئات ومجتمعات مختلفة، تضافرت كلها لتصنع إنتاجًا فكريًّا قادرًا على أن يخاطب الإنسان أينما كان، وصحيح أن قدرًا كبيرًا من هذه الثَّقافة غربي (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة)، ولكن من الصحيح أن رصيد العرب من الثقافة الرصينة هو الأبقى، والأفضل لأنه يمتزج بالأخلاق، والتوافق من الفطرة التي تدعو الناس للاحتشام ومكارم الأخلاق.
إن شراً مستطيراً يغزوا شباب العرب من ثقافة الانحلال التي وجدت أبواب الاتصال المباشر بها، فغزت عقول الشباب وهم في بدايات حياتهم لم يتحصنوا بعد بالعلم والمُثُل العربية، فأصبحوا في غالب البلدان فريسة لثقافة لا تعرف الأخلاق، ولا تقيم وزناً لدين أو عرف، بل تسعى لإشباع الغرائز، والانغماس في الشهوات.
والمشكلة أن هذه الثَّقافة العالميَّة تحيط بنا من كل جانب، وليس في الإمكان أن نعزل شبابنا عنها عزلًا تامًّا، حتى لو تعمدنا ذلك، فهي على الأقل تفرض نفسها على شبابنا في أشكال فنية لا تحتاج إلى معرفة باللغات، كوسائط التواصل ، والإعلام بكل أشكاله، وهذه مؤثرات يستوعبها شبابنا بسهولة.
العلاج يمكن في تفعيل الثقافة العربية، ونقلها من مرحلة المحاكاة والمجاراة إلى ثقافة أصلية تنبع من قناعات الشعوب العربية، وتستمد مادتها، وجَذْوتها من قيم الأمة وتراثها، ولا بد من تطوير مادة الثقافة، وروافدها بحيث تستوعب الواقع، وتستفيد من القوالب العصرية، فتكون ثقافة مرنة مع الأصالة، وعصرية مع المحافظة، ومسلية مع الجد والفائدة، وهذه مسئولية أرباب القلم في البلدان العربية.
إن المرء يشعر اليوم بالأسى حين يُقارن أوضاع الثَّقافة المحليَّة في الوطن الْعَربي اليوم بما كانت عليه قبل جيل أو جيلين، فخلال جيلين ماضيين كُنَّا نجد في المجلات والصحف العربيَّة وحدها جرعة ثقافية كافية لبعث الحيوية في النفس والعقل معًا، وكان باب المساجلات والمناقشات والمعارك الفكرية والأدبية مفتوحًا للجميع، مهما اختلفت اتجاهاتهم في التفكير، ولم نكن نسمع عن اتهامات يُلقيها الكُتَّاب بلا حساب على رؤوس بعضهم بعضًا، فلم نصادف كاتبًا يصف الآخر بأنه عميل أو دخيل، أو مارق، أو مدسوس أو جاسوس، صحيح أن الجدال كان يحتدم، وحرارة المناقشات كانت ترتفع في أحيان كثيرة إلى درجة عالية، ولكن كان هناك اتفاق ضمني بين الجميع على أن من حق كل طرف أن يعبر عن رأيه كما يشاء، طالما أنه لم يمس المقدسات ولم ينتهك الحرمات.
فمتى تعيد الأجيال الجديدة سيرة سلفهم من أهل المعارف والثقافة والقلم؟!!
Source link