الوفاء هو الاعتراف بالفضلِ لذوي الفضل، وردُّ الجميل لذوي المعروف، وهو مِن شِيَم الكرام، وأمارةٌ على سموِّ النَّفْس وكريم الخُلق.
معاشر المؤمنين، تكمُل النفسُ البشرية بعبوديَّتها لله، وحُسن معاملتها مع الخلق، وشَرَع الله لعباده الأخذَ بمعالي الأمور والنهيَ عن سافلها.
والوفاءُ من معالي الأخلاقِ وكريم الخصال، ومِن صفاتِ النفوسِ الشريفة، وبه تجمل الحياة ويستقيم المجتمع.
والوفاء – عباد الله- هو الاعتراف بالفضلِ لذوي الفضل، وردُّ الجميل لذوي المعروف، وهو مِن شِيَم الكرام، وأمارةٌ على سموِّ النَّفْس وكريم الخُلق.
وأعظَمُ الوفاء الوفاءُ بعهد الله؛ بأن يُعبَد ولا يجحد، وأن يُوحَّد ولا يُشرَك به، وأن يُشكَر ولا يُكفَر، وأن يُوقَّر دينُه ويُلتَزم شرعُه، كما قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
وامتدح الله تعالى نبيَّه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال سبحانه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، أما مآل الوفاء بذلك العهد فهو الفوز بجنة الله تعالى ورضوانه، وهذا هو عهده جلَّ وعلا {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111].
ثم الوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بصدق محبته، واتِّباع سُنَّته، والتزام شريعته، والذود عنه، وجزاء ذلك الوفاء أن يسعد الموفون بعهدهم له صلى الله عليه وسلم بشفاعته، والورود على حوضه يوم القيامة، فيشربون شربةً لا يظمأون بعدها أبدًا، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي»؛ (رواه البخاري (6212) ومسلم (2290)).
معاشر المؤمنين، الوفاءُ يعظُم مع الوالدَيْن؛ فأعظم حقوق الخلق حقهما؛ فقد تعِبا لراحتك، وسهِرَا لنومِك، وحمَلَتك أمُّك كرهًا ووضعَتْك كُرهًا، وكدَحَ الوالدُ لعَيشِك، وإن أوَّل واجبٍ فرَضَه الله تعالى من حقوقِ الخَلق البرّ بالوالدين، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
ومن الوفاءِ لهما الدعاء لهما كما علَّمنا ربنا جلَّ وعلا بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، ومن الوفاء لهما طاعتُهُما في غيرِ معصيةٍ، وفعلُ الجميل معهما، وإدخالُ السرور على نفوسِهما، ومن الوفاء لهما بعد موتهما إنفاذ وصيتهما، والاستغفار لهما، وإكرامُ صديقهما بعد موتهما.
جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بِرِّ أبوي شيء أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرَّحِم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»؛ (أبو داود).
وفي رواية: قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه! قال «فاعمل به..»؛ (ابن حبان).
ومن الوفاء –عباد الله- الوفاءُ بين الزوجين؛ فقد جمَعَهما عقدٌ عظيم ورابطة كريمة، قال سبحانه: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، ومن أعظم صور الوفاء بين الزوجين وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بنت خويلدٍ رضي الله عنها التي كانت أول من آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهِي التي ثبَّتَت فؤادَه عند نزولِ الوحي، وقوَّتْ عزيمتَه، وواسته بمالها، وصبرت معه على أذى كفار قريش، وكانت خيرَ زوجةٍ لزوجِها في حياتها، قال ابن حجر رحمه الله: كانت حريصةً على رِضاه بكلِّ ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قطُّ.
فقابَل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاءَها بوفاءٍ أعظَمَ منه، فكان يشكُرُها، في إحسانها وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها.
تقول عائشة رضي الله عنها: جاءت عجوزٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو عندي، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «من أنتِ» ؟ قالت: أنا جثَّامةُ المُزنيَّةُ، فقال: «بل أنتِ حسَّانةُ المُزنيَّةُ، كيف أنتُم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتُم بعدنا» ؟ قالت: بخيرٍ بأبي أنت وأمِّي يا رسولَ اللهِ، فلما خرجتُ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، تُقبِلْ على هذه العجوزِ هذا الإقبالَ، فقال: إنها كانت تأتينا زمنَ خديجةَ، وإنَّ حسنَ العهدِ من الإيمانِ؛ (صحيح الجامع).
قال النوويّ رحمه الله: في هذا كلِّه دليلٌ لحُسنِ العهدِ وحِفظِ الوُدّ، ورعايةِ حُرمة الصَّاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب.
ومن صور الوفاء –عبادالله – محبَّةُ العلماء وأهل السبق في الإيمان والفضل وأهل الدعوة والجهاد، وتوقيرُهم وإجلالهم؛ إذ هم حملَةُ الدين وحماته ومجاهدوه، وورثةُ الأنبياء والمرسلين، قال تعالى بيانًا لهذا الوفاء: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
قال الطحاويُّ رحمه الله: وعلماءُ السَّلَف من السابقين ومن بعدهم أهلُ الخبر والأثر وأهلُ الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، قال الإمام أحمدُ رحمه الله: ما بِتُّ منذ ثلاثين سنَة إلا وأنا أدعو للشافعيِّ وأستغفر له، هذا هو الوفاء الذي يؤديه من جمع بين الإيمان والعلم، والخلق والمروءة ممن يعرفون لذوي الفضل والعلم منزلتهم، ولذوي الدعوة والجهاد فضلهم، فلا تنطق ألسنتهم إلا بالحقِّ والخير والعرفان.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه بلغه أن رجلًا نال من عثمان بن عفان رضي الله عنه، فدعاه فأقعده بين يديه، فقرأ عليه الآية {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الآية قال: من هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم. قال: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغلُّ عليهم.
نعم عباد الله، من أراد أن يلتحق بهذه الطائفةِ الثالثة فليحقِّق شروطها: من الدعاء للسابقين ذوي الفضل، والثناء عليهم، واقتفاء آثارهم، وطهارة قلبه ولسانه من الغلِّ والحقد لهم وللمؤمنين.
معاشر المؤمنين، الوفاء للوطن من صور الوفاء المحمودة، ففي رباه ترعرع المرء، وفي ظلاله تربَّى، وفي أجوائه تنعَّم وتعلَّم، وبأهله ارتبط برابطةِ القرابة والجيرة، والرحم والصداقة، فكان لزامًا أن يكون المرءُ وفيًّا لوطنه، وفاء يحمله على حماية أمنه، وأن يكون أمينًا على مقدراته، مساهمًا في بنائه، حافظًا لهويته، حارسًا لدينه وعقيدته، محافظًا على قيمه وأخلاقه، بهذا يكون الوفاء للوطن حقيقةً وواقعًا لا ادعاءً وتغنِّيًا، وبذلك تأمن الأوطان وتقوى، ويرسخ الإيمان ويُعلى.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية ومُعلِّم البشرية.
________________________________________________
الكاتب: سعد محسن الشمري
Source link