يجري على لسانِ كثير من الناس عباراتٌ مختلفةٌ، توظَّف في مواضيعَ متنوعةٍ، كلٌّ حسب سياقها، من ذلك مثلًا قول البعض: (أعوذ بالله من قول: أنا) في مَعرِضِ حديثه عن نفسه وعمَّا أنجزه من أعمال
عبدالحق التويول
يجري على لسانِ كثير من الناس عباراتٌ مختلفةٌ، توظَّف في مواضيعَ متنوعةٍ، كلٌّ حسب سياقها، من ذلك مثلًا قول البعض: (أعوذ بالله من قول: أنا) في مَعرِضِ حديثه عن نفسه وعمَّا أنجزه من أعمال؛ إذ بمجرد ما يقول: أنا الذي فعلت كذا، أو أنا الذي قلت كذا، إلا ويُبادر إلى التعوُّذ بالله من أناه (أنا)، علمًا أن التعوُّذ بالله إنما يكون من الشيطان، ومعناه أنك تطلب اللجوء والاحتماء بالله تعالى؛ ليُجنِّبَك مكايدَ الشيطان ووساوسه التي تجري منك مجرى الدم من العروق؛ ولهذا فسياق التعوُّذ من (أنا) لا محلَّ له، اللهم إلا إذا كان الإنسان هو شيطانَ نفسِه، فحينها يجوز له أن يتعوَّذ من نفسه بنفسه؛ تطهيرًا لها من الرياء والمفاخرة المضمرة، بالمبادرة إلى نفي ذلك عن نفسه، وتزكيتها من كل ما يمكن أن يتبادر إلى ذهن السامع، محاولًا أن يقول لك تلميحًا لا تصريحًا: (أنا لست مُرائيًا ولا مفاخرًا)، وهذا في حد ذاته رياءٌ وفخرٌ ناتجٌ من خلل نفسيٍّ داخلي، يشعر صاحبه بالتضخُّم فيحاول ستره بالمبادرة إلى نفيه وإظهار عكسه، ولو كان الإنسان واثقًا بنفسه، مخلصًا لربه، بعيدًا كلَّ البُعد عن الأنانية والرياء والفخر، لما احتاج إلى قول: (أعوذ بالله من قول: أنا)؛ لأنه يعرف أن الله تعالى هو من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وهو الذي يعلم مقدار الصدق الذي يتَّصف به عبدُه من عدمه.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة في قوله وفعله؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (( «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشقُّ الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفَّع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر» ))[1]، وقال صلى الله عليه وسلم : (( «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه – يعني: السبابة، والوسطى» ))[2]، وغير ذلك من الشواهد الكثيرة التي تحدَّث فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه بضمير (أنا)، ولم يتعوَّذ، ولو كان في ذلك ما تدعو الحاجة إليه، لبيَّنها لنا ولأرشدنا إليها.
وعلى ذلك قس ما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ فكثيرًا ما كانوا يتحدَّثون عن أعمالهم دون تعوُّذ، من ذلك مثلًا ما رواه أبو هريرةَ قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟))، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمَن تبع منكم اليوم جنازةً؟))، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمن أطعَمَ منكم اليوم مسكينًا؟))، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟))، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخَل الجنة))» [3].
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن جملة من أعمال البر: (الصيام – إطعام مسكين – اتِّباع جنازة – عيادة مريض)، وفي كل مرة يجيب سيدنا أبو بكر بقوله: (أنا)، دون أن يتعوَّذ، ودون أن يُنكر عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم هذا الإنكارَ الذي يجرؤ عليه البعض، ويعلنونه بطريقة فجة محرجة أمام الملأ، إذا حدثتهم عن شيءٍ ما يخصُّك ولم تتعوَّذ، فيبادرونك بالقول: (قل: أعوذ بالله من قول أنا)، وكأنك ارتكبت محظورًا والعياذ بالله.
[1] سنن ابن ماجه.
[2] جامع الترمذي.
Source link