منذ حوالي ساعة
إن مراقبة الله واستشعار عظمته والخوف منه من أعظم العبادات، وأهم الواجبات على المسلم، وهي سياج للنجاة، وطريق للفوز والفلاح، وحرز من وساوس النفس والشيطان، ووقاية من الفتن، وثبات عند البلاء
الحمد لله العزيز الوهَّاب، الغفور التوَّاب، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، خلق الخلق فأحصاهم عددًا، وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، وهو العظيم القاهر فلا يعجزه أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، أئمة العلم والهدى ومصابيح الدُّجَى، وسلم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بَعْـــــد:
عبـــــــاد الله، يقول أحد الفضلاء في إحدى كتاباته، عندما كنت أعيش في أمريكا (نيويورك) أتاني خطاب بالبريد (بأني ارتكبت مخالفة مرور.. حيث قطعت الإشارة الحمراء بالشارع الفلاني، في الساعة الفلانية، في اليوم الفلاني)، وفي الخطاب يسألونك كذا سؤال… وهل تقر بهذه المخالفة أم لا؟ وهل لديك أي اعتراض؟ وكانت قيمة المخالفة حوالي 150 دولارًا.
ولأني لا أذكر إن كنت قد قطعت الإشارة أم لا، ولا أعرف أسماء الشوارع بالضبط في الولاية، رددْتُ عليهم: “نعم عندي اعتراض.. فأنا غير مُتيقِّن أني سرت فى هذا الطريق.. ولا قطعت هذه الإشارة”، بعدها بأسبوع، وصلني خطاب، وبه ثلاث صور لسيارتي: واحدة قبل قطع الإشارة، وهي حمراء، والثانية وأنا في منتصف الإشارة، وهي حمراء، والثالثة بعدما جاوزت الإشارة بمتر واحد، وهي حمراء أيضًا! يعني متلبِّس لا مفر.. الصور هي الدليل القاطع! حينها دفعت ال 150 دولارًا، بعد إقراري بالمخالفة وسكتُّ.
قال: وفي يوم ما، بعد هذه الحادثة، وأنا أقرأ في “سورة الجاثية”، تذكرت هذه الحادثة والمخالفة عندما وصلت إلى قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى لديه نسخ مما فعل البشر في الحياة الدنيا! هذا المقطع من الآية: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أصابني بالذهول والقشعريرة والخوف من الله! يا إلهي! هذه آلة تصوير من صنع البشر، ولا تستطيع أن تهرب أو تفر منها! فما بالك بتصوير وتسجيل واستنساخ لأعمالنا من ربِّ الناس، أين المفرُّ؟ هذا الاستنساخ لأعمالنا في كتاب لا يضل ولا ينسى، ويُحفظ فى مكان مأمون، لا يتلف بفعل عوامل المناخ، من أعاصير أو رياح او أمطار، ولا يُسرق ولا يُقَرْصَن، يا إلهي! كل المعاصي مستنسخة بتواريخها ووقائعها وأشخاصها ومكانها وزمانها وألوانها وأهدافها وملابساتها وخلفياتها وبواعثها، كلها مسجلة بالصوت والصورة، وبالنيات كذلك، فهو سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ أي إنه يعلم ما لا تستطيع كاميرات البشر تسجيله!
كل هذا سيعرض على الإنسان يوم القيام، يا للهول!
قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
أيها المسلمون، عباد الله: لقد كان من أهمِّ القيم التي غرسها محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه، وربَّى عليها أتباعه؛ هي مراقبة الله، والخوف منه، واستشعار عظمته، والوقوف عند أمره ونهيه، وكان القرآن ينزل تثبيتًا وتدعيمًا لهذه التربية، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، ويقول سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وقال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وهذا لقمان عليه السلام يُربِّي ابنه، فقال له ناصحًا وموجِّهًا: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ** خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعـــــــةً ** ولا أن ما تخفيه عنه يغيـب
فاجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عليك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إن الذين يتحلون بفضيلة المراقبة هم خيار العباد من العقلاء، وصفوة الناس من الأتقياء، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره خفَّ يوم القيامة حسابه، وحضر له عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في ساحة القيامة وقفاته، وقادته إلى العقاب سيئاته، قال الله عز وجل وهو يعرض هذه الحقيقة في قصة ابنى آدم قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ر إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 27 – 30].
إن المرء ليتساءل: ما الذي جَرَّأ الأخ على قتل أخيه وسفك دمه؟ وما الذي عصم الآخر من ارتكاب نفس الخطأ ونفس الجريمة؟ أليس الخوف من الله ومراقبته واليقين بلقائه؛ فلذلك قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 28، 29].
أيها المؤمنون عبــاد الله، إن مراقبة الله واستشعار عظمته والخوف منه من أعظم العبادات، وأهم الواجبات على المسلم، وهي سياج للنجاة، وطريق للفوز والفلاح، وحرز من وساوس النفس والشيطان، ووقاية من الفتن، وثبات عند البلاء، وقد حذر سبحانه وتعالى من الغفلة عنها، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، وقال الله تعالى وهو يقرر هذه الرقابة الربانية: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]، ومتى ما ضاعت وتلاشت المراقبة من حياة الإنسان وخلي منها القلب، ضاع مصير هذا الإنسان، وضَلَّ عن الطريق، وتاه عن صراط الله المستقيم، واتَّبَع هواه، واستحوذ عليه الشيطان، وفسدت أعماله، وساءت أخلاقه، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم حالة توجل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، حين قال: «ليأتين أناسٌ من أُمَّتي معهم حسنات كجبال تهامة بيض، يكبهم الله تعالى على وجوههم في النار»، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله، جلهم لنا، فقال: «يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم وِرْد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»؛ (صحَّحه الألباني)، قال أبو الدرداء: ليتَّقِ أحدُكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيُلْقي الله عليــه البغض في قلوب المؤمنين.
إن الرقابة البشرية – على حاجة الناس لها وعلى أهميتها، سواءً كانت رقابة إدارية، أو مالية، أو أسرية، أو اجتماعية، أو فكرية – قد تغفل وقد تغيب، ولكن المفهوم الإسلامي يزرع معنى رقابة الله، وإحساس المسلم بهذه الرقابة؛ ليكون على نفسه شهيدًا حفيظًا، قال نافع: «خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، فوضعوا سفرة، فمَرَّ بهم راعٍ، فقال له عبدالله: هلم يا راعي فأصِبْ من هذه السفرة، فقال: إني صائم، فقال له عبدالله: في مثل هذا اليوم الشديد حَرُّه وأنت في هذه الشعاب، في آثار هذه الغنم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائم، فقال الراعي: أبادر أيامي الخالية، فعجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها، قال: إنها ليست لي، إنها لمولاي، قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت: أكلها الذئب؟! فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟ قال: فلم يزل ابن عمر يقول: فأين الله، فلما قدم المدينة فبعث إلى سيده، فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهب له الغنم رحمه الله، وقال له: إن هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم القيامة»؛ صفة الصفوة (2 / 188).
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أيها المؤمنون، إن مراقبة الله تعالى تُعلي شأن صاحبها في الدنيا، وتجعله من الناجين في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يُظِلُّهم الله تعالى في ظِلِّه يوم لا ظل إلا ظله –وذكر منهم– ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله –وذكر منهم– ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه».
إن للمراقبة فوائدَ كثيرةً وعديدةً في الدنيا والآخرة؛ منها: إتقان العمل وتحسينه وتجويده، ومنها: تَحَرِّي أكل الحلال والبُعْد عن الحرام، ومنها: العصمة من ارتكاب المعاصي والموبقات، ومنها: الفوز بالجنَّة والنَّجاة من النَّار، ومنها: الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، ومنها: أنها دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام، ومنها: أن المراقبة تثمر محبَّة الله تعالى ورضاه، ومنها: أنها دليل على حسن الخاتمة، ومنها: أن المراقبة مظهر من مظاهر صلاح العبد واستقامته.
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السِّرِّ والنجوى، واعلموا أن استشعار عظمة الله وقدرته ومراقبته تُورِث السعادة والراحة والفلاح والأمن والتوفيق والسداد والنجاة في الدنيا والآخرة، هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
______________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
Source link