“قال الشافعي رضي الله عنه: لو فكَّر الناس كلهم في هذه السورة، لكَفَتْهُم”
أقسم الله في كتابه العزيز بالوقت في مطالع سور عديدة، بأجزاء منه؛ مثل: الليل، والنهار، والفجر، والضحى؛ وقال في مطلع هذه السورة: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1].
أخرج الطبري بسند حسن، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: “العصر: ساعة من ساعات النهار”.
وقال البخاري: “قال يحيى (أي: ابن زياد الفراء): العصر: الدهر، أقسم به”.
ومعلوم أن الله يُقسِم بما شاء من خَلْقِهِ، وأنه إذا أقسم بشيءٍ دلَّ ذلك على عظمة الْمُقْسَم به، وتشريفه، وأهميته، فشأن الوقت عظيم، وشرفه لا يعرِفه إلا الموفَّقون، وهو أشرف من أن يضيع منه لحظة، ولا يُضيِّعه إلا غافل خاسِرٌ؛ فقد جاءت السُّنَّة الصحيحة لتؤكد أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتقرر أن الإنسان مسؤول عنه يوم القيامة؛ فعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن علمه: فيمَ فَعَل؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه» ؟))[1].
قال ابن القيم في هذا المعنى: “فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مَرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأمانيِّ الباطلة، وكان خير ما قطعه به النومُ والبَطالة، فموتُ هذا خير من حياته”[2].
وقال الحسن: “العصر هو العَشِيُّ”.
فالعصر كذلك هو آخر النهار، أقسم الله به؛ لأن آخر النهار يشبه نهاية العالم وإماتة الأحياء، فعند ذلك إقامة الأسواق، ونصب الموازين، ووضع المعاملات، وفيه إشارة إلى أن عُمرَ الدنيا ما بقِيَ إلا بقدر ما بين العصر إلى المغرب، فعلى الإنسان أن يشتغل بتجارة لا خُسران فيها؛ فإن الوقت قد ضاق، وقد لا يمكن تدارك ما فات.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أُوتِيَ أهل التوراةِ التوراةَ، فعمِلوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا، ثم أُوتِيَ أهلُ الإنجيل الإنجيلَ، فعمِلوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا، ثم أُوتينا القرآن، فعمِلنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابَين: أي ربنا، أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتَنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنا أكثر عملًا؟ قال: قال الله عز وجل: هل ظلمتُكم من أجرِكم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أُوتِيه من أشاء» [3].
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] هذا جواب القسم، والمراد بالإنسان: جنسه، ونُكِّر الخسر للتعظيم؛ أي: في خسران عظيم، وقيل: نُكِّر للتنويع؛ أي: في أنواع من الخسران كثيرة.
فأكبر الخاسرين هو الكافر؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63].
وأقلهم خسارةً المسلمُ الغافل؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» [4]، فالمغبون: الخاسر في التجارة، مأخوذ من الغَبْنِ في البيع؛ أي: لا يعرِف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس؛ حيث لا يكسِبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم، فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم، فدلَّ هذا الحديث الشريف على أن الفراغ نعمة عظيمة من الله عز وجل، وأن كثيرًا من الناس مغبون في هذه النعمة، وسبب ذلك الغَبْنِ أحد ثلاثة أمور:
(1) أنه لم يستغلَّ هذا الفراغ على أكمل وجه، وذلك بأن يكون قد شغل فراغه بأمر مفضول، مع أنه كان بإمكانه أن يشغله بأمرٍ أفضلَ.
(2) أنه لم يشغَل هذا الوقت بشيء من الأعمال الفاضلة التي تعود عليه بالنفع في دينه ودنياه، وإنما شغله بأمور مباحة، لا أجر فيها ولا ثواب.
(3) أنه شغله بأمرٍ مُحرَّمٍ، وهذا أشد الثلاثة غَبْنًا، فهو ضيَّع على نفسه فرصة استغلال الوقت بما يعود عليه بالنفع، ولم يكتفِ بذلك، بل شغل وقته بما يكون سببًا لتعرضه لعقوبة الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
وقد كان السلف يُحذِّرون من تضييع الزمان، ويحرِصون على الانشغال بما ينفعهم.
• قال الحسن البصري: “أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أحرصَ منكم على دنانيركم ودراهمكم”.
• وقال الفضيل بن عياض: “أعرِف من يَعُدُّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة”.
• وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحِهِ، فيُقال له: في هذا الوقت؟ فيقول: “أبادرُ طَيَّ صحيفتي”.
• وقال رجل لعامر بن عبدِقيسٍ: قِفْ أكلمك، فقال: “أمْسِكِ الشمس”.
• ودخلوا على رجل من السلف، فقالوا: لعلَّنا شغلناك؟ فقال: “أصدُقُكم، كنت أقرأ، فتركت القراءة لأجلكم”.
•وجاء عابدٌ إلى السريِّ السقطي، فرأى عنده جماعة، فقال: “صِرتَ مَناخَ البطَّالين”، ثم مضى ولم يجلس.
• وقعد قوم عند معروف الكرخي، فأطالوا، فقال: “إن مَلَكَ الشمس لا يفتُر عن سَوقِها، فمتى تريدون القيام؟”.
• وقال مالك بن أبي فروة: كنا نجالس عبدالله بن أبي الهذيل، فإن جاء إنسان، فألقى حديثًا من حديث الناس قال: “يا عبدالله، ليس لهذا جلسنا”.
• وقال أحد الصالحين لتلاميذه: “إذا خرجتم من المسجد فتفرَّقوا؛ لعلكم تقرؤون القرآن، فإنكم إذا اجتمعتم في الطريق، تكلمتم وضاعت أوقاتكم”.
فحِفْظُ الوقت أصلُ كلِّ خيرٍ، وضياعه منشأ كل شر، بل إن ضياع الوقت داء عُضال، ومرضٌ قَتَّال، بل هو بحرٌ من رَكِبَه غرِق؛ فإنه لا ساحل له، ولا نجاة منه، متناهٍ في القبح والبشاعة، غاية في الخِسَّة والشناعة.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، قال: إلا الذين صدقوا الله ووحَّدوه، وأقروا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدَّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، واستثنى الذين آمنوا من الإنسان؛ لأن الإنسان بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد.
والإيمان مَقْرُونٌ بالعمل الصالح في القرآن؛ قال محمد بن الحسين: ميزوا رحمكم الله قولَ مولاكم الكريم: هل ذُكر الإيمان في موضع واحد من القرآن إلا وقد قُرِنَ إليه العمل الصالح؟ وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، فأخبر تعالى بأن الكلم الطيب حقيقة أن يُرفَع إلى الله تعالى بالعمل، إن لم يكن عملٌ، بطل الكلام من قائله، ورُدَّ عليه، ولا كلام طيبًا أجَلُّ من التوحيد، ولا عمل من أعمال الصالحات أجَلُّ من أداء الفرائض.
وكرر سبحانه التواصي ليتضمن الأول الدعاءَ إلى الله، والثاني الثبات عليه، وخصص التواصي بالحق والصبر، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة؛ لإبراز كمال الاعتناء بهما.
وقال سبحانه: {وَتَوَاصَوا} ، ولم يقل: (وأوصَوْا)؛ ليُبيِّن أن النجاة من الخسران منوطة بحرص كل فرد من أفراد الأمة على الحق، ونُزُوع كل منهم إلى أن يُوصِيَ به قومه ومن يُهِمُّه أمر الحق، ليوصي صاحبه بطلبه؛ وهذا ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي مدينة الدارمي، قال: ((كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا، لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2]، ثم يُسلِّم أحدهما على الآخر))[5].
قال الإمام ابن القيم: “قال الشافعي رضي الله عنه: لو فكَّر الناس كلهم في هذه السورة، لكَفَتْهُم، وبيان ذلك أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:
• إحداها معرفة الحق.
• الثانية عمله به.
• الثالثة تعليمه من لا يُحسِنه.
• الرابعة صبره على تعلُّمه، والعمل به، وتعليمه.
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خُسْرٍ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 3]؛ وهم الذين عرَفوا الحق وصدَّقوا به؛ فهذه مرتبة، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3]؛ وهم الذين عمِلوا بما علِموه من الحق؛ فهذه أخرى، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3]، وصَّى به بعضهم بعضًا تعليمًا وإرشادًا؛ فهذه مرتبة ثالثة، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، صبروا على الحق، ووصَّى بعضهم بعضًا بالصبر عليه والثبات؛ فهذه مرتبة رابعة.
وهذه نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملًا في نفسه، مكمِّلًا لغيره، وكماله بإصلاح قوَّتَيهِ العلمية والعملية؛ فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره، بتعليمه إياه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل.
فهذه السورة – على اختصارها – هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره.
والحمد لله الذي جعل كتابه كافيًا عن كل ما سواه، شافيًا من كل داء، هاديًا إلى كل خير”[6].
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
[1] سنن الترمذي: 2417، قال الألباني: صحيح.
[2] الجواب الكافي، ص: 155-156.
[3] صحيح البخاري: 557.
[4] صحيح البخاري: 6412.
[5] الصحيحة: 2648.
[6] مفتاح دار السعادة، ج: 1، ص: 56-57.
_______________________________________________
الكاتب: محمد حباش
Source link