والمؤمن الموفق إذا أصابه ما يكره أحسن الظن بربِّه، وعلم أن الذي ابتلاه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه، ولا ليعذبه به، وإنما ليمتحن إيمانه وصبره ورضاه
أيها المؤمنون، إنما مسائل التوحيد المهمة التي يغفل عنها كثير من الناس بل حتى بعض من لهم حَظٌّ من العلم مسألة حسن الظن بالله، وقد بوَّب شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله على هذه المسألة في كتاب التوحيد مُنَبِّهًا بها على وجوب حسن الظن بالله؛ لأن ذلك من واجبات التوحيد؛ ولذلك ذمَّ الله من أساء الظن به؛ لأن حسن الظن به مبني على العلم برحمة الله وعزته، وإحسانه وقدرته، وعلمه وحسن اختياره، وقوة التوكُّل عليه، فإذا تمَّ العلم بكل هذا أثمر حسن الظن بالله سبحانه.
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي»؛ (أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ»؛ (أخرجه مسلم).
ومما يُجلِّي أهمية هذا الأمر واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله، فمن الناس من اتَّكَل على حسن ظنه بربِّه، واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي متناسيًا ما توعَّد الله به من وقع فيما يسخطه ويغضبه، غافلًا عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور.
قال ابن القيم رحمه الله: “ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن أحسن الظن بربِّه أن يجازيه على إحسانه، وألَّا يخلف وعده، وأن يقبل توبته، وأما المسيءُ المصرُّ على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسْن الظن بربِّه”؛ اهـ.
وحُسْن الظن بالله حقيقته أن يظن العبد بالله خيرًا ورحمةً وإحسانًا في معاملته ومكافئته ومجازاته أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وهذا يتحقق في أمور كثيرة:
منها: إذا دعا ربَّه أن يقبل ربُّه دعاءه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ»؛ (رواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحسَّنه الألباني).
ومنها: إذا تقرَّب إلى الله بعمل صالح أن يتقبل الله عمله ويرفعه، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
ومنها: أن يقبل توبته إذا أذنب وتاب فأناب، وقد دلَّت النصوص على هذه الحقيقة، قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104].
ومنها: أن يوقن بوعد الله ونعيمه الذي أعَدَّه الله لعباده الصالحين المستقيمين على طاعته وشرعه. وقد دلَّت النصوص على ذلك، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
ومنها: أن يوقن بحسن لقاء الله وستره وتجاوزه عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “إذا رأيتم الرجل قد نزل به الموت فبشِّروه حتى يلقى ربه وهو حسن الظن بالله تعالى، وإن كان حيًّا فخوِّفوه بربِّه واذكروا له شدة عقابه”.
ومنها: عند نزول البلاء وضيق الحال، قال بعض السلف: “استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل في كشفها؛ فإن ذلك أقرب بك إلى الفرج”.
عباد الله، للسلف حال عظيم مع حسن الظن بربهم:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا”، وقال أيضًا: “لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه”.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لله درُّ ابن عباس؛ إنه لينظر إلى الغيب عن ستر رقيقة”.
وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “والله الذي لا إله غيره، ما أُعطي عبد مؤمن شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله، ولا يُحسن عبد الظن بالله عز وجل إلا أعطاه الله ظنه”.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل”.
وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: “اتقوا ظَنَّ المؤمن؛ فإن الله جعل الحق على لسانه وقلبه”.
وفي الصحيحين أن صفيَّة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره وهو معتكف، وأن رجلين من الأنصار رأياهما فأسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا»، أَوْ قَالَ: «شَيْئًا».
وكان سعيد بن جبير رحمه الله يقول: “اللهم إني أسألك صدق التوكُّل عليك وحسن الظن بك”.
وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: “ما أُحب أن حسابي على والدي، أحب أن حسابي على ربي؛ فإن الله أرحم بي من أبي”.
وقال عمار بن يوسف رحمه الله: “رأيت حسن بن صالح في منامي (الاثنان من الصالحين)، فقلت: قد كنت متمنيًا للقائك، فماذا عندك فتخبرنا به؟ قال: أبشر فلم أرَ مثل حسن الظن بالله عز وجل شيئًا”.
وعن خلف بن تميم رحمه الله أنه قال: قلت لعلي بن بكار: ما حسن الظن بالله؟ قال: “ألا يجمعك والفُجَّار في دار واحدة”.
وقال أحمد بن العباس النمري رحمه الله:
وإنِّي لأرجو الله حتى كأنني ** أرى بجميل الظن ما الله صانع
والمؤمن الموفق عباد الله إذا أصابه ما يكره أحسن الظن بربِّه، وعلم أن الذي ابتلاه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه، ولا ليعذبه به، وإنما ليمتحن إيمانه وصبره ورضاه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا الشكوى إليه.
فيا عباد الله، شرُّ ما مُنِيَت به النفوس، واضطربت به القلوب؛ يأسٌ يُمِيتُ الشعور، وقنوطٌ تُظلِم به الدنيا، وتتحطَّم به الآمال، وتخبوا به الأماني، وتُسَدُّ به المسالك، وتُغْلَقُ به المنافذ.
ولقد جاء ذكر اليأس والقنوط في آيتين من كتاب الله، في مَعْرِض الذَّمِ لهما والتنفير من سلوك سبيلهما؛ لأنهما من كبائر الذنوب، فقال عزَّ من قائل: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، ورَوْح الله – يا عباد الله – هو رحمته ورجاء الفرج عنده.
وقال سبحانه: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، فأوضح سبحانه أن المؤمن ليس من شأنه اليأس والقنوط، وإنما يكون على الدوام خائفًا راجيًا، يخاف جَرِيرَة ذنبه وتَبِعَة معصيته، ويرجو مع ذلك رحمة ربه وعفوه ومغفرته، مقرونًا بالعمل بطاعته.
يا صاحب الكرب إن الكرب منفرج ** أبشر بخيرٍ فإن الفارج اللــــــــــهُ
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبـــــــــه ** لا تيأسن فإن الكافي اللــــــــــــهُ
الله يحدث بعد الكرب ميســــــرةً ** لا تجزعن فإن الكاشف اللـــــــــهُ
إذا بليت فثق بالله وارضَ بـــــــه ** إن الذي يكشف البلوى هو اللـــــهُ
والله ما لك غير الله من أحــــــدٍ ** فحسبك الله في كلٍّ لك اللـــــــــهُ
عباد الله، ولقد أطمع الله عباده في رحمته، ورغَّبهم في عفوه، وعلَّق آمالهم في مغفرته، فقال عَزَّ اسمه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
وفي الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»؛ أي: بقريب مِلْئها غفرانًا وعفوًا.
أيها المؤمنون، نحسن الظن بالله عز وجل لأمور كثيرة:
1- امتثال واستجابة لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وأن حسن الظن بالله له ارتباط وثيق بنواحي العقيدة، وأن التوكُّل على الله سبحانه وتعالى والثقة به يعلمك حسن الظن به.
النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابيَّ لا يربط ناقته، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»؛ (رواه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه وحسَّنه الألباني).
وحسن الظن يدفعك للخوف من الله سبحانه وتعالى، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: “من حسُن ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف فهو مخدوع”.
ألا وصلُّوا – عباد الله – على رسول الهدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمَّد، وارضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاءِ الأربعة الراشدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين.
اللهُمَّ أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّى أمرنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقَى والعفاف والغنى.
اللهم اجعلنا نشكرك ونذكرك حتى ترضى.
اللهم اجعلنا ممن أحسن الظن بك.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك.
اللهم آتِ نفوسنا تَقْواها وزكِّها أنت خير من زكَّاها.
عباد الله، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90، 91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، الله يعلم ما تصنعون.
____________________________________________________
الكاتب: د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
Source link