في هذا المبحث نبيِّن التقسيم الثالث من تقسيمات الاجتهاد، وهو تقسيمه باعتبار الإطلاق من عدمه؛ أي: هل المجتهد مجتهد مطلق متصرف في الأحكام الشرعية بالنظر والاستنباط والاجتهاد أم أنه ليس كذلك
الشيخ وليد بن فهد الودعان
في هذا المبحث نبيِّن التقسيم الثالث من تقسيمات الاجتهاد، وهو تقسيمه باعتبار الإطلاق من عدمه؛ أي: هل المجتهد مجتهد مطلق متصرف في الأحكام الشرعية بالنظر والاستنباط والاجتهاد أم أنه ليس كذلك، بل هو مجتهد مقيَّد بمذهب من المذاهب، أو بطريقة من الطرق الاستنباطية، والشَّاطبي لم ينص على هذا التقسيم، ولكنه يُفهَم من مضمون كلامه، علمًا أن هذا التقسيم خاص بالاجتهاد في عُرف الأصوليين.
رأي الشَّاطبي:
ينقسم الاجتهاد بهذا الاعتبار – عند الشَّاطبي – إلى قسمين:
القسم الأول: اجتهاد مطلق.
القسم الثاني: اجتهاد مقيد.
فالاجتهاد المطلق؛ كاجتهاد الأئمة مالك وأبي حنيفة والشافعي، وهم الذين يأخذون أصولهم مباشرة من فهمهم مقاصد الشريعة، ومعرفتهم بلغة العرب؛ فهم مجتهدون في فهم المقاصد، ومجتهدون في اللغة العربية.
أما الاجتهاد المقيد، فقد أشار الشَّاطبي إلى أنه على نوعين:
النوع الأول: الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين؛ كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فهؤلاء “يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه في فهم ألفاظ الشريعة، ويفرِّعون المسائل، ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك”[1]، وقد يخالفون مذهب إمامهم، وقد يوافقونه، وقد قبل الناس اجتهادهم وفتاويهم لفهمهم مقاصد الشرع في وضع الأحكام، ولولا ذلك لَمَا قُبِل منهم، ولما جاز لهم الاجتهاد، وبعض هؤلاء قد يبلغ تمام المعرفة في كلام العرب، وقد لا يبلغ[2].
والنوع الثاني: ما عليه كثير من المتأخرين، الذين من شأنهم تقليد المجتهدين من المتقدمين بالنقل من كتبهم، والتفقه على مذاهبهم.
فهؤلاء مقلِّدون، لا يحق لهم الاجتهاد، ولا يجوز منهم، ولا يصح اتباعهم، كسائر العوام، واجتهادهم غير معتبر؛ لأنه لم يخرج من أهله.
وهذان القسمان هما ما ظهر من كلام الشَّاطبي، وليس لازمًا أن يكون الأمر محصورًا فيهما.
وقد وافق الشَّاطبيَّ في هذا التقسيم عامة الأصوليين؛ فهم يثبتون هذا التقسيم، ويذكرونه في مؤلفاتهم[3].
ويفصلون في القسم الثاني، وهو المجتهد المقيد، ويجعلونه على قسمين:
القسم الأول: مجتهد المذهب، وهو المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص الأئمة.
والقسم الثاني: مجتهد الفتوى، وهو من تبحَّر في مذهب إمام، وتمكن من الترجيح بين أقوال الإمام[4].
وبعضهم ذكر تقسيمًا آخر، وهو:
الأول: مَن لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله؛ لكونه قد جمع أوصاف المجتهد المستقل، وإنما ينسب إليه؛ لأنه سلك طريقه ومنهجه في الاجتهاد.
الثاني: مَن يكون في مذهب إمامه مجتهدًا، بحيث يستقل بتقرير مذهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصولَ إمامه وقواعدَه.
الثالث: مَن لا يبلغ رتبة أئمةِ المذهب أصحابِ الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصور ويحرر ويمهد، ويقرر ويزيف ويرجح، إلا أنه أنزل من الرتبة الثانية.
الرابع: من يقوم بحفظ المذهب في نقله وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أن عنده ضعفًا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته[5].
وعلى هذا، فهذا التقسيم جرى فيه الشَّاطبي مجرى الأصوليين، ولم يأتِ فيه بجديد.
[1] الموافقات (5/ 126)، وانظر منه: (5/ 51).
[2] انظر: الموافقات (5/ 51 – 52، 126 – 127).
[3] بعض الأصوليين ذكر القسمين، وبعضهم اقتصر على القسم الأول، ويفهم منه القسم الثاني، وبضدها تتبين الأشياء، كما قد قيل؛ انظر: المستصفى (2/ 353) الضروري (138) الإحكام (4/ 164) بذل النظر (692) أدب الفتوى (35) المجموع (1/ 75) صفة الفتوى (16 وما بعدها) نهاية الوصول (8/ 3833) شرح مختصر الروضة (3/ 585) المسودة (546 – 457) جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 589، 594) الإبهاج (3/ 256) البحر المحيط (6/ 205 – 206) الإنصاف (1/ 258) الفوائد السنية (3/ 1144، 1157) الرد على من أخلد إلى الأرض (38 – 42) مناهج العقول (3/ 274) شرح الكوكب المنير (4/ 467) معونة أولي النهى (9/ 587 – 588) غاية الوصول (148) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 293) تيسير التحرير (4/ 182) نشر البنود (2/ 315 – 316) المدخل لابن بدران (374).
[4] انظر: أدب الفتوى (40 وما بعدها) المجموع (1/ 75 – 77) صفة الفتوى (17) المسودة (547 – 549) إعلام الموقعين (4/ 162 – 164) الإنصاف (12/ 259 – 264) الرد على من أخلد إلى الأرض (38 – 42) شرح الكوكب المنير (4/ 468 – 471) معونة أولي النهى (9/ 588 – 590) نشر البنود (2/ 316 – 317) المدخل لابن بدران (375 – 377).
[5] انظر: شرح المعالم (4/ 1598 – 1600) جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 594 – 595) الفوائد السنية (3/ 1157) مناهج العقول (3/ 274 – 275) غاية الوصول (148) نثر الورود (2/ 628).
Source link