الاجتهاد العام -: فالمراد به هو الاجتهاد الذي لا يختص بالعالم المجتهد، وإنما هو عام لكل مكلف، سواء كان عالمًا، أو حاكمًا، أو مفتيًا، أو غير ذلك.
الشيخ وليد بن فهد الودعان
من المعلوم أن من يقوم بعملية الاجتهاد هو العالمُ المجتهد، غير أن الشَّاطبي يتوسع في نظره مسمى الاجتهاد، وبالتالي يتوسع قوله فيمن يقوم بالاجتهاد، وهذا التقسيم وإن كان الشَّاطبي لم ينص عليه، فقد أشار إليه؛ ولذا سنعرض في هذا المبحث لتقسيم الاجتهاد بهذا الاعتبار، وسنبين تميز هذا التقسيم الذي أشار إليه.
رأي الشَّاطبي:
أشار الشَّاطبي إلى تقسيم الاجتهاد من حيث من يقوم به إلى قسمين:
القسم الأول: اجتهاد عام.
القسم الثاني: اجتهاد خاص.
أما القسم الأول – وهو الاجتهاد العام -: فالمراد به هو الاجتهاد الذي لا يختص بالعالم المجتهد، وإنما هو عام لكل مكلف، سواء كان عالمًا، أو حاكمًا، أو مفتيًا، أو غير ذلك.
والاجتهاد العام هو في حقيقته جزء من أحد نوعي تحقيق المناط[1]؛ فتحقيق المناط على نوعين:
النوع الأول: تحقيق مناط خاص بالأنواع.
النوع الثاني: تحقيق مناط خاص بالأشخاص أو بالجزئيات.
وتحقيق المناط الخاص بالأشخاص على جزأين:
الجزء الأول: وهو العام لكل مكلف، وهو ما يطلِق عليه الشَّاطبي الاجتهاد العام، وهو الذي عناه الشَّاطبي حينما قال: “فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومُفْتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه”[2]، وحينما قال أيضًا: “فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم، فضلًا عن درجة الاجتهاد”[3].
وهذا النوع هو المرتبط بالنظر في ارتباط المكلف بالحكم الشرعي، فهذا النظر اجتهاد مرتبط بالأحكام الشرعية، وتحقيق مناطها العيني، ولا يشترط له بلوغ درجة الاجتهاد، كما أنه لا بد منه لكل مكلف، والشَّاطبي – فيما يبدو – يطلق عليه مسمى الاجتهاد تجوُّزًا، لا عُرفًا أصوليًّا؛ ولذلك قلنا: هو اجتهاد عام؛ أي: هو عام فيمن يقوم به، كما أنه عام في إطلاقه.
وقد مثَّل له الشَّاطبي بالعامي إذا سمع من العالم أن الزيادة الفعلية في الصلاة إذا وقعت سهوًا، سواء كانت من جنس الصلاة أم من غير جنسها، فلا تخلو من حالتين: أن تكون يسيرة فتغتفر، أو كثيرة فلا تغتفر، فإذا وقعت للعامي زيادة في صلاته، فلا بد له من النظر والاجتهاد في تحقيق مناط هذه الصورة التي حدثت له، وإلحاقها بالحكم الذي حقق مناطه المجتهد العالم بالشرع، فينظر هل هذه الزيادة يسيرة أو لا؟ فإذا اجتهد وعيَّن أحد الأمرين عمِل بحكمه، وكان بذلك قد حقق مناط حادثته[4].
ولا يبعُدُ عن هذا المثال بقية أمثلة تحقيق المناط العام؛ كتحقيق من ينطبق عليه مسمى العدالة، ومن ينطبق عليه مسمى الفقر، ونحو ذلك مما سيذكر في موضعه[5].
فالمثالانِ السابقان يحتاج لهما الحاكم والمفتي والناظر، بل وحتى العامي.
ومما يمكن أن يدرج ضمن هذا القسم ما أشار إليه الشَّاطبي ضمن الأمثلة التي يوردها لتحقيق المناط النوعي: من أن مِن تحقيق المناط النوعي ما هو عام؛ أي: ليس خاصًّا بالعلماء، بل يشاركهم في ذلك أهل الخبرة، وهو وإن كان محصورًا في فئة من الناس إلا أنه لا يختص بالمجتهدين، ومن هذا الباب يمكن أن نطلق عليه اجتهادًا عامًّا، ومثاله: تحقيق المِثْل في جزاء الصيد، وتقييم المتلَفات، وأروش الجنايات، ونحو ذلك، فمن المعلوم أن هذه الأمورَ لا تختص بالعلماء، بل يشاركهم أهل الخبرة بذلك الأمر، بل إن الأمر قد يختص بأهل الخبرة دون العالم، لا سيما إذا كان العالم ممن لا خبرةَ له[6].
وأما القسم الثاني: فهو الاجتهاد الخاص، وهذا الاجتهاد الخاص هو ما يطلق عليه في عرف الأصوليين: مسمى الاجتهاد.
والشَّاطبي أدرج ضمن الاجتهاد الخاص أنواعًا من الاجتهاد، وهي:
النوع الأول: الاجتهاد في تنقيح المناط، وهو ما كان مرتبطًا بتمييز الوصف المعتبر في الحكم من بين الأوصاف المذكورة في النص، فيقوم المجتهد بتمييزه عما هو غير معتبر، ولا شك أن هذا النوع من الاجتهاد خاصٌّ بالمجتهدين، ولا يمكن للعامي ومَن في حكمه أن يقوم بذلك[7].
ثانيًا: الاجتهاد في تخريج المناط، وهذا النوع لما أن كان راجعًا إلى أن النص المتضمن للحكم لم يتعرض لبيان المناط، فالمجتهد يقوم بالبحث واستخراج المناط الذي يغلِب على ظنه أن الشارع علق عليه الحكم – كان لا يقوى عليه العامي ومَن في حكمه؛ ولذا كان خاصًّا بالعلماء المجتهدين[8].
ثالثًا: نوع من تحقيق المناط، ويريد به الشَّاطبي تحقيق المناط النوعي، والنوع الثاني من تحقيق المناط الشخصي، أما تحقيق المناط الخاص بالأنواع، فهو كتعيين نوع الرقبة في العتق في الكفارات، وعلامات البلوغ، ونحو ذلك[9].
وقد ذكرنا – فيما سبق – أنه يمكن فهمًا من أمثلة الشَّاطبي اندراج نوع من تحقيق المناط النوعي ضمن الاجتهاد العام، وهو ما ليس خاصًّا بالعلماء، وعلى هذا فيكون المراد هنا النوع الثاني من تحقيق المناط النوعي، وهو ما يكون خاصًّا بالعلماء لا يشاركهم فيه غيرهم، فمثلًا تعيين نوع الرقبة في الكفارات، وتعيين علامات البلوغ أمران لا يعيِّنهما إلا العلماء من خلال فهمهم لأدلة الشرع، ولا يمكن أن يشاركهم في ذلك غيرهم.
وأما النوع الثاني من تحقيق المناط الشخصي، فهو تحقيق المناط الشخصي الخاص، وهو ما ينظر فيه إلى دواخل النفس البشرية ومراميها ومداخلها، وطرق التحرز منها، وما يلائم تلك النفوس ويناسبها، وهذا نظر دقيق للغاية، ولا يفطن له إلا الكمَّل من أهل العلم، أهل الورع والتقوى والفِراسة[10]؛ ولذا فهو خاص، بل هو أخص من الخاص؛ إذ حتى بعض المجتهدين لا يوفقون إليه، ولا ينتهون إليه، وهو فضل من الله يؤتيه من يشاء، ونور وحكمة يختص الله به مَن به حباه[11].
وبالبحث لم أرَ أحدًا صرح بهذا التقسيم، وليس القسم الخاص بجملته محل إشكال؛ إذ هو ما يطلق عليه مسمى الاجتهاد عند الأصوليين، ولا شك أن الأصوليين في الغالب يقصرون مسمى الاجتهاد على العالم المجتهد، فهو إذًا عندهم خاص.
ولكن هل يشير الأصوليون إلى ما يسمى بالاجتهاد العام؟، المتأمل لكلامهم يرى أن من الأصوليين من أشار إلى هذا؛ وذلك حينما أبهموا المجتهد في القسم الأول من أقسام تحقيق المناط، وهو أن تكون القاعدة الكلية في الأصل منصوصًا عليها أو مجمعًا عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع، ولا شك أنه يندرج في هذا تحقيق المناط الشخصي العام.
بينما في القسم الثاني – وهو ما عُرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع، ويضيف بعضهم: أو استنباط، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده – خصوا البيان بالمجتهد[12].
وعلى كل حال، فإن هذا النوع من الاجتهاد، وهو الشخصي العام، والمتعلق بكل مكلف – فيما يظهر – ليس محل خلاف؛ لأن شمولية الشريعة وحاكميتها على كل فرد من الأفراد لا تكون إلا عن طريق تحقيق المناط المراد هنا، سواء سمي ذلك اجتهادًا، أو تحقيق مناط أو لا، لا سيما أنه قد نقل الاتفاق عليه؛ قال ابن تيمية: “هذا النوع مما اتفق عليه المسلمون، بل العقلاء، بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص، إنما يتكلم بكلام عام، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم[13]“[14]، وقال: “إن الأحكام الجزئية، وحل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو، لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًّا، وإنما شرعها شرعًا كليًّا؛ مثل: {﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾} [البقرة: 275]”[15].
ومن المعلوم أن إسقاط هذه الأحكام الكلية على الأعيان، لا يمكن أن يكون إلا عن طريق ما نسميه اجتهادًا تحقيقيًّا عامًّا.
أما تحقيق المناط النوعي العام، فالمتأمل لكلام الأصوليين يلحظ أنهم يشيرون إليه؛ ولذا يمثلون على تحقيق المناط، أو على ما يجوز فيه التقليد، وهو في حقيقته من تحقيق المناط، بأمثلة لا تختص بأصحاب الأهلية في الاجتهاد، بل قد يصرحون بنسبتها إلى غير المجتهدين: كتقليد التجار في تقويم المتلَفات، وأروش الجنايات، وتقليد القاسم إذا قسم شيئًا بين اثنين، والقائف[16] في إلحاق الولد، والخارص[17] فيما يخرصه، والطبيب فيما قلد إليه، والملاح في القِبْلة[18].
وهذه الأمثلة مما لا شك فيه لا تختص بالمجتهد، وهي مندرجة في تحقيق المناط النوعي العام.
إذا علم هذا، تبين لنا أن الشَّاطبي قد تميز تميزًا واضحًا بهذا التقسيم الذي أشار إليه؛ فهو بعقليته الفذة الجامعة أظهر ما كان خفيًّا، وجمع وقعد ما كان مشتتًا متفرعًا.
أدلة الشَّاطبي ومن وافقه:
يمكن أن يُستدَل للشاطبي على عموم الاجتهاد المتعلق بنوع من تحقيق المناط الشخصي، وأنه لا يختص بالعالم المجتهد، بما استدل به على بقاء هذا النوع من الاجتهاد وعدم انقطاعه، مع إضافة ما يلزم ويناسب المسألة هنا، وقد استدل بأدلة:
الدليل الأول: أن هذا النوع قلنا بعمومه؛ لشدة الحاجة إليه بالنسبة لكل مكلف؛ ذلك أن الأحكام الشرعية لا تتنزل على أفعال المكلفين في الواقع إلا عن طريقه؛ فالأحكام الشرعية مطلقات وعمومات تتنزل على الأفعال المطلقة، وهذه الأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما لا بد من وقوعها معينة مشخصة، ولا بد لكل مكلف من النظر في دخوله تحت هذا المطلق أو لا؟[19].
وأضرب لذلك مثالًا يتضح به استدلال الشَّاطبي: أداء الزكاة واجب على من ملك النصاب؛ فالإيجاب حكم شرعي مطلق يتنزل على أداء الزكاة لمن ملك النصاب، وهذا فعل مطلق يتنزل على الأشخاص، فعلى المكلف أن ينظر هل هو داخل تحت ذلك الحكم أو لا؟ فإذا وجد أنه يملك نصابًا حكم بدخوله، وإلا فلا.
الدليل الثاني: أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية بعينها؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا، وإنما جاءت بأمور كلية، وعبارات مطلقة تتضمن جزئيات كثيرة لا حصر لها، ولكن لكل جزئية معينة خصوصية ليست في غيرها، ولو في نفس التعيين، وليس أعلى من ينطبق عليه مسمى الكلية هو المعتبر في الحكم دائمًا، وإنما الأمر على طرفين، وبينهما مراتب، فإذا ثبت ذلك كان لكل جزئية نظر خاص، وهذا أمر يعني جميع المكلفين، وليس أمرًا خاصًّا[20].
الدليل الثالث: أن هذا النوع من الاجتهاد لا يلزم أن يكون ثابتًا بدليل شرعي؛ إذ قد يثبت بدليل غير شرعي، أو بلا دليل؛ كطمأنينة النفس وما يقع في القلب، وهذا أمر لا يحتاج إلى بلوغ رتبة الاجتهاد، ولا إلى شيء من العلم؛ ولذا كان هذا النوع بمقدور العامي وغيره، فلا تخصيص[21].
[1] انظر: الموافقات (5/ 12).
[2] الموافقات (5/ 16).
[3] الاعتصام (2/ 387).
[4] انظر: الموافقات (5/ 16 – 17).
[5] انظر: الموافقات (5/ 12 – 14).
[6] انظر: (ص 193 وما بعدها) من هذا البحث.
[7] انظر: الموافقات (5/ 19 – 21).
[8] انظر: الموافقات (5/ 21 – 22).
[9] انظر: الموافقات (5/ 17 – 23).
[10] الفِراسة: بكسر الفاء، يقال: تفرَّست فيه الخير؛ أي: تعرفته بالظن الصائب، والفراسة: بمعنى التثبت والنظر، وهي في العرف: تطلق على مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب، وقيل: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، وعرفها ابن القيم: بأنها نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل، والحالي والعاطل، والصادق والكاذب، وقد قسمها ابن القيم إلى أقسام: إيمانية، ورياضية، وخَلْقية؛ انظر: الرسالة القشيرية (266) المصباح المنير (2/ 467) مادة: “فرس”، مدارج السالكين (2/ 504) التعريفات (212) كشاف اصطلاحات الفنون (3/ 434).
[11] انظر: الموافقات (5/ 23 وما بعدها).
[12] انظر: رسالة في أصول الفقه (81 – 83) روضة الناظر (2/ 198 – 199).
[13] روى البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نُصرت بالرعب مسيرة شهر)) (4/ 15/ 2977) ومسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5/ 5/ 523) عن أبي هريرة مرفوعًا: ((بُعثت بجوامع الكلم…)).
[15] مجموع الفتاوى (29/ 153).
[16] القائف: اسم فاعل من قوف، وقد ذكر ابن فارس أنها ليست أصلًا، إنما هي من باب القلب، يقال: يقوف الأثر، بمعنى يقفو، والقائف: مَن يعرف الآثار، وهو هنا من يعرف النسَب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود؛ انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 42) القاموس المحيط (1095) كلاهما مادة: “قوف” معجم لغة الفقهاء (353) القاموس الفقهي (309).
[17] الخارص: اسم فاعل من الخَرْص – بفتح ثم سكون – بمعنى التقدير والحزر، يقال: خرصت النخل إذا قدرت ثمره، والخِرص – بالكسر – الشيء المخروص، ويقال بالفتح أيضًا؛ انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 169) القاموس المحيط (795) كلاهما مادة: “خرص”، المطلع (132) أنيس الفقهاء (212) معجم لغة الفقهاء (194).
[18] انظر هذه الأمثلة وغيرها في المقدمة لابن القصار (16 – 19، 23، 26، 30 – 31) المستصفى (2/ 230، 403) روضة الناظر (2/ 198 – 199) شرح تنقيح الفصول (433 – 434) تقريب الوصول (403، 541).
[19] انظر: الموافقات (5/ 17).
[20] انظر: الموافقات (5/ 14 – 15).
[21] انظر: الاعتصام (2/ 387).
Source link