بين سؤال الخالق والمخلوق – محمد بن عبد الله السحيم

منذ حوالي ساعة

الخالقُ حييٌّ كريمٌ لا يَردُّ سائلًا؛ يستحيي من عبدِه إذا مدَّ يديه إليه بالسؤالِ أنْ يَرُدَّهما خائبتيْن، بخلافِ المخلوقِ الذي ما زادَه سؤالُ طالبِه وإلحاحُه عليه إلا جَرَاءةً على ردِّه ونَهْرِه.

الضعفُ سِمةُ البشرِ، وسنةُ اللهِ التي فُطِروا عليها؛ {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]. ولما كان ضعفُ المخلوقِ مانعًا من استقلالِه بقضاءِ حاجتِه؛ تحصيلًا للمصالحِ ودفعًا للمفاسدِ؛ لزمَه أنْ يستعينَ بمن يُعينُه في ذلك، فكانت تلك الاستعانةُ مناطًا لتعلِّقِ القلبِ، وفيصلًا في تحقيقِ التوحيدِ ونَبذِ الشركِ.

وقد تباينتْ طرائقُ الخلقِ في الاستعانةِ بحسب ما تعلَّقتْ به قلوبُهم؛ فمنهم مهتدٍ قد قَصَرَ إنزالَ حاجتِه بربِّه حين كان تعلُّقُ قلبِه به؛ فكان مَحَطَّ سؤالِه ورجائه، ومنهم ضالٌ مخذولٌ قد أنزلَ حاجتَه بالمخلوقين حين علَّقَ قلبَه بهم؛ فكانوا غايةَ أملِه ومَحَلَّ سؤالِه؛ وغدا بين سؤالِ الخالقِ والمخلوقِ من شاسعِ البَوْنِ ما هو جديرٌ بطولِ التأملِ والاعتبارِ؛ ليبنيَ المرءُ مطالبَه على أساسٍ راسخٍ لا ينهارُ.

 

عبادَ اللهِ!

إنَّ اللهَ بحكمتِه ورحمتِه قد جعلَ سؤالَ العبدِ خالقَه مباينًا لسؤالِ المخلوقِ من كلِّ وجهٍ؛ ليكونَ تعلُّقُ القلوبِ به وحدَه لا شريكَ له؛ مُحقِّقًا العبدُ بذلك التعلقِ توحيدَه، ظافرًا بقضاءِ حاجتِه على أتمِّ وجوهِ الإحسانِ والكرامةِ.

فالخالقُ -جلَّ وعلا- قد أظهرَ لعبيدِه غناه المطلقَ الذي لم يُسبقْ بعَدمٍ، ولا يلحقُه نقصٌ، فضلًا عن الفناءِ! وأبانَ قدرتَه على إجابةِ كلِّ مطالبِ السائلين؛ دِينِّها وأُخرويِّها، وفَتَحَ بكرمِه للطالبين أبوابَ خزائنِه المَلْأى التي لا تَغِيضُها النفقاتُ، كما قال -تعالى- في الحديثِ القدسيِّ: ” «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ ‌إِذَا ‌أُدْخِلَ ‌الْبَحْرَ» ” (رواه مسلمٌ) .

أما غنى المخلوقِ فمسبوقٌ بعَدمٍ، ويَلحقُه النقصُ، بل الفناءُ، ودائمًا ما يُظهِرُ ذلك المخلوقُ الذي جُبِلَ على البخلِ والشُّحِّ للسائلين فقرَه وعجزَه. ومحبةُ اللهِ لعبدِه، وقربُه منه، وعلوُّ منزلتِه عنده بقدْرِ سؤالِه إياه وإلحاحِه عليه، وسؤالُ العبدِ المخلوقين ضدُّ ذلك؛ يكونُ تبرُّمُهم منه واستثقالُهم إياه وكراهيتُهم له بقدْرِ سؤالِه وإلحاحِه. قال ابنُ القيِّمِ:” سؤالُ المخلوقِ للمخلوقِ سؤالُ الفقيرِ للفقيرِ، والربُّ -تعالى- كلَّما سألتَه كَرُمْتَ عليه، ورضيَ عنك، وأحبَّك، والمخلوقُ كلَّما سألتَه هِنْتَ عليه، وأبغضَك، ومَقَتَك، وقَلاك، كما قيل:

اللهُ يَغضبُ إنْ تركتَ سؤالَه   **   وبُنيُّ آدمَ حين يُسألُ يَغضَبُ 

 

وقبيحٌ بالعبدِ المُريدِ أنْ يتعرَّضَ لسؤالِ العبيدِ وهو يجدُ عند مولاه كلَّ ما يُريدُ “. وبابُ اللهِ مفتوحٌ للسائلين؛ لا يُوصَدُ؛ ولا يُحَدُّ بوقتٍ أو حالٍ، ولا يُطرَدُ عنه مَن أَمَّهُ وأناخَ مطالبَه لديه، بخلافِ المخلوقِ العاجزِ الذي جعلَ لِلُقياهُ ميقاتًا، وباتَ من لازمِ سؤالِه تَحَيُّنُ صفاءِ حالِه حتى لا يَبوأَ سائلُه بخيبةِ الردِّ. ويمتازُ بابُ اللهِ مع ديمومةِ فتْحِه بخلوِّه عن الحُجَّابِ والوسطاءِ؛ فلا حائلَ يَمنعُ العبدَ من دخولِه على ربِّه وسؤالِه إياه مباشرةً.

قال بكرُ بنُ عبدِاللهِ المُزنيُّ: ” مَن مثلُك يا بنَ آدمَ؟! خُلِّيَ بينك وبين الماءِ والمحرابِ؛ تدخلُ إذا شئتَ على ربِّك ليس بينك وبينه حِجَابٌ ولا تَرجُمانُ “.

والمخلوقُ -كلما علا في الدنيا-، فإنه يَجعلُ على بابِه حُجَّابًا يمنعون وصولَ السائلين، فلا يدخلون إليه إلا بوسيطٍ أثيرٍ لديه، أو بمضيِّ زمنِ انتظارٍ يَطُولُ، هذا إنْ وصلَ، مع كونِ حرمانِه أقربَ من امتنانِه.

قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ: ” جاءني طاووسُ بنُ كَيْسانَ، فقال لي: يا عطاءُ، إيَّاك أنْ تَرفعَ حوائجَك إلى مَن أغلقَ دونك بابَه، وجعل دونَك حِجابًا، وعليك بطلبِ حوائجِك إلى مَن بابُه مفتوحٌ لك إلى يومِ القيامةِ، طَلبَ منك أنْ تدعوَه، ووعدَك الإجابةَ “.

ورأى ميمونُ بنُ مِهْرانَ الناسَ مجتمعين على بابِ بعضِ الأمراءِ، فقال: مَن كانت له حاجةٌ إلى سلطانٍ، فحَجَبَه؛ فإنَّ بيوتَ الرحمنِ مُفتَّحةٌ، فليأتِ مسجدًا، فليصلِّ ركعتين، ثمَّ ليسألْ حاجتَه “.

قلْ للذين تَحصَّنوا عن سائلٍ   **   بمنازلٍ مِن دونها حُجّابُ 

إنْ حال دون لقائكم بوَّابُكـم   **   فاللهُ ليس لبابِه بــــوّابُ 

 

وجاء رجلٌ إلى أحمدَ بنِ أبي غالبٍ الحربيِّ فقال: سلْ لي فلانًا في كذا، فقال أحمدُ: قمْ معي، فصلِّ ركعتين، واسألِ اللهَ -تعالى-؛ فإنِّي لا أتركُ بابًا مفتوحًا، وأقصدُ بابًا مغلقًا. والخالقُ -جلَّ شأنُه- عليمٌ رحيمٌ، يعلمُ حالَ عبدِه، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمرِه، ويعلمُ حاجتَه وإنْ عَجَزَ لسانُه عن بيانِها، أو قَصُرَ علمُه عن طلبِها، يَسْمَعُ ‌ضَجِيجَ ‌الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، فَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، سَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، فَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا وَمَجَارِيَ الْقُوتِ فِي أَعْضَائِهَا، بخلافِ المخلوقِ الذي يَحتاجُ سائلُه إلى بيانٍ وأسلوبٍ يُؤثِّرُ فيه وشاهدٍ يُعَرِّفُه بحالِه ويَشهدُ له بصدقِه.

والخالقُ حييٌّ كريمٌ لا يَردُّ سائلًا؛ يستحيي من عبدِه إذا مدَّ يديه إليه بالسؤالِ أنْ يَرُدَّهما خائبتيْن، بخلافِ المخلوقِ الذي ما زادَه سؤالُ طالبِه وإلحاحُه عليه إلا جَرَاءةً على ردِّه ونَهْرِه.

وعطاءُ الخالقِ جَزْلٌ هنيءٌ، والمخلوقُ غالبًا لا يُعطي، وإنْ أعطى فعطاؤه قليلٌ مَشُوبٌ بمَنٍّ غالبٍ أو استثقالٍ. وكرمُ الخالقِ ورحمتُه وحكمتُه جعلتْ مَنْعَه للسائلِ عطاءً أحسنَ وأجزلَ من إجابةِ سؤالِه، كما قال بعضُ أهلِ العلمِ: ” عُدَّ مَنْعَ اللهِ إيَّاك عطاءً منه لك؛ فإنَّه لم يمنعْك بُخْلًا، إنما مَنَعَك لُطْفًا “.

وقال ابنُ الجوزيِّ: “إذا رأيتَ سِرْبالَ الدنيا قد تقلَّصَ عنك؛ فاعلمْ أنّه لَطَفَ بك؛ لأنَّ ‌المُنْعِمَ لم يقبِضْهُ بُخلًا أن يَتمزَّق، ولكنْ رِفقًا بالسَّاعي أن يَتَعَثَّرَ “. وعطاءُ المخلوقِ سائلَه إنْ أعطى قد يكونُ فيه العطبُ والضررُ!

 

أيها المؤمنون!

بامتلاءِ القلبِ من متينِ العلمِ بعظيمِ الفارقِ بين سؤالِ الخالقِ والمخلوقِ، ودوامِ استشعارِه، وإدراكِ حكمةِ اللهِ في هذا التَّبايُنِ العظيمِ يكونُ تعلُّقُ القلبِ بالخالقِ، وإفرادُه وحدَه بالطلبِ والتوحيدِ، وقَطْعُ حبالِ التعلُّقِ الواهيةِ بالمخلوقين الضِّعافِ، فيَنْعمُ العبدُ -حينئذٍ-بعيشِ الكرامةِ، وعزةِ المهابةِ، ولذةِ الرجاءِ واستنشاقِ عبيرِ الفألِ وحسنِ الظنِّ باللهِ وتوقُّعِ الخيرِ واليقينِ بتغيُّرِ بؤسِ الحالِ؛ فلا تُضَيِّقُ سماءَ رجائِه الرَّحبِ أحجارُ الواقعِ الأرضيِّ الصغيرةُ؛ لِيجمعَ اللهُ له -حين جَمَعَ قلبَه عليه- حفظَ دينِه، وقضاءَ حاجتِه، وكرامةَ عيشِه.

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: ” فأعظمُ ما يكونُ العبدُ قدْرًا وحُرمةً عند الخَلقِ إذا لم يحتَجْ إليهم بوجهٍ من الوُجوهِ، فإنْ أحسنتَ إليهم مع الاستغناءِ عنهم؛ كنتَ أعظمَ ما يكونُ عندَهم، ومتى احتجتَ إليهم – ولو في شربةِ ماءٍ – نقصَ قدرُكَ عندَهم بقدْرِ حاجتِك إليهم، وهذا من حكمةِ اللهِ ورحمتِه؛ ليكونَ الدينُ كلُّه للهِ، ولا يُشرَكُ به شيءٌ>

إنَّ المخلوقين إذا اشتكى إليهمُ الإنسانُ فضررُهم أقربُ من نفعِهم، والخالقُ – جلَّ جلالُه وتقدستْ أسماؤه ولا إلهَ غيرُه – إذا اشتكى إليه المخلوقُ، وأنزلَ حاجتَه به، واستغفرَه من ذنوبِه؛ أيَّدَه وقوَّاه، وهداه، وسَدَّ فاقتَه وأغناه، وقرَّبَه، وأقْناه، وأحبَّه واصطفاه.

والمخلوقُ إذا أنزلَ العبدُ به حاجتَه؛ استرذلَه وازدراه، ثم أعرضَ عنه؛ خسرَ الدنيا والآخرةَ. وإنْ قضى له ببعضِ مطلبِه – لأنه عنده من بعضِ رعاياه – يَستعبدُه بما يهواه، قال الخليلُ -عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ-: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].

وهذا بابٌ واسعٌ قد كتبتُ فيه شيئًا كثيرًا، وعرفتُه؛ علمًا، وذوقًا، وتجربةً “. وما دام قلبُ العبدِ متعلقًا بربِّه في قضاءِ حاجتِه فلا يَضِيرُه طلَبُ أسبابِها لدى الناسِ، كما قال محمدُ بنُ واسعٍ لقُتيْبةَ بنِ مُسلمٍ: ” إنِّي أتيتُك في حاجةٍ رفعتُها إلى اللهِ قبلكَ، فإنْ أذنَ اللهُ فيها قضيتَها وحمِدناك، وإنْ لم يأذنِ اللهُ فيها لم تقضِها وعذرْناك “.

أنزلتُ بالحُرِّ إبراهيمَ مسألـــــــةً   **   أنزلتُها قبلَ إبراهيمَ باللـــــــــــهِ 

فإنْ قضَى حاجتِي فاللهُ يسَّرَها   **   هو المقدِّرُها والآمرُ النَّاهِــــــــي 

إذا أبى اللهُ شيئًا ضاقَ مذهبُــه   **   عن الكبيرِ العريضِ القدْرِ والجاهِ 

 

وبعدُ، فهذه مقارنةٌ بين سؤالِ الخالقِ والمخلوقِ، وبيانُ حالِ كلٍّ منهما، ومآلِه؛ لِيُؤْثِرَ العبدُ بها نعيمَ سؤالِ خالقِه وجميلَ عطائِه، فلا تَحْمِلُه سَطْوةُ النَّظرةِ الماديِّةِ، وضَعْفُ الإيمانِ بالغيبِ، وحُبُّ العاجلةِ، وضلالُ كثيرٍ من الناسِ في طلبِ الحاجاتِ على التعرُّضِ للمخلوقين بالسؤالِ؛ فيَبُوءَ بالخسرانِ، والحرمانِ، والهوانِ!


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الإسلام واف بمصالح العباد – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة الإسلام يحفظ الضرورات الخمس، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، إلى جانب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *