الله من رحمته خلق الشيخوخة لتُفيق وتستعد؛ لتُحسِّن نهاية صحيفتك، وخاتمة أنفاسك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجَلَه حتى بلَّغه ستين سنةً»
إن أعراض الشيخوخة الطبيعية التي يهرُب منها الناس، ويحاولون كل المحاولات لطمس معالمها، والهروب من هيئتها – لَنِعْمَةٌ كبرى؛ فالوصول إليها أو الإحساس بها، أو مشاهدتها نازلةً بغيرك يُزهِّدك في هذه الحياة الدنيا، ويُرغِّبك فيما عند الله، يزهِّدك في الزخرف الفاني، ويرغِّبك في الذهب الباقي، جاءك نذيرُ الشَّيب، وإحساس الضعف في القِوى والوظائف؛ لتعقِلَ أنك ما خُلقت لهذه الحياة، إنما للحياة الخالدة هنالك عند رب الخلائق.
نعم، هي نعمة؛ فلو أن الإنسان يعيش حياته كلها وهو شابٌّ، ويموت وهو شاب، لطغى وبغى، وغفل ولم يستعد للدار الآخرة، لكن الله من رحمته خلق الشيخوخة لتُفيق وتستعد؛ لتُحسِّن نهاية صحيفتك، وخاتمة أنفاسك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجَلَه حتى بلَّغه ستين سنةً»، ستون سنة بالتقويم الهجري وليس بالميلادي، بمعنى تقريبًا 58 سنة بالتقويم الميلادي؛ قال ابن حجر رحمه الله: “قوله: (أعذر الله): الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبقَ له اعتذار، كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجَل، لَفعلتُ ما أُمرت به، يُقال: أعذر إليه إذا بلَّغه أقصى الغاية في العذر ومكَّنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة، مع تمكُّنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار، والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به، والحاصل أنه لا يُعاقب إلا بعد حُجَّة”.
وقال رحمه الله: “قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدًّا لهذا؛ لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقُّب المنيَّة، فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من الله بعباده، حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم، فلم يعاقبهم إلا بعد الحُجَجِ الواضحة، وإن كانوا فُطِروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أُمِروا بمجاهدة النفس في ذلك؛ ليتمثلوا ما أُمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نُهوا عنه من المعصية، وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مَظِنَّة لانقضاء الأجَل؛ وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة رفعه: «أعمارُ أُمَّتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك»؛ قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة: سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين، فحينئذٍ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية؛ لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة”.
قال تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]؛ قال ابن كثير رحمه الله، وما أجمل وأروع ما قال: “يُخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره، رُدَّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]، وقال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].
والمراد من هذا – والله أعلم – الإخبار عن هذه الدار بأنها دارُ زوالٍ وانتقال، لا دارُ دوامٍ واستقرار؛ ولهذا قال: { {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} } [يس: 68]؛ أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خَلْقِهم، ثم صيرورتهم إلى نفس الشَّبِيبة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلِقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا مَحِيدَ عنها؛ وهي الدار الآخرة“.
قال القرطبي رحمه الله:
“قال الشاعر:
من عاش أخلقَتِ الأيامُ جِدَّتَه ** وخانه ثقتاه السمعُ والبصرُ
فطولُ العمر يُصيِّر الشباب هَرَمًا، والقوة ضعفًا، والزيادة نقصًا، وهذا هو الغالب، وقد تعوَّذ صلى الله عليه وسلم من أن يُرَدَّ إلى أرذل العمر؛ {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم”.
نعمة كبرى لا يُقدِّر قدرها إلا الموفَّق الْمُسدَّد: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]؛ قال السعدي رحمه الله: “ثم انتقل من هذا الطَّور، ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54] بحسب حكمته، ومن حكمته أن يُريَ العبدَ ضعفَه، وأن قوته محفوفة بضَعفَين، وأنه ليس له من نفسه إلا النقص، ولولا تقوية الله له لَما وصل إلى قوة وقدرة، ولو استمرت قوته في الزيادة، لطغى وبغى وعتا.
وليعلم العبادُ كمالَ قدرة الله التي لا تزال مستمرة يخلق بها الأشياء، ويدبر بها الأمور، ولا يلحقها إعياء ولا ضعف، ولا نقص بوجه من الوجوه”.
قال ابن كثير: “ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يَهْرَم، وهو الضعف بعد القوة، فتضعُف الهِمَّة والحركة والبطش، وتشيب اللِّمة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]؛ أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]”.
قال ابن عاشور رحمه الله: “وعطف {وَشَيْبَةً} للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوةَ بعده، وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت“.
والعاقل هو من يستغل شبابه وعمره قبل أن يذوق ضعفه وهرَمَه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يَعِظُه: «اغتَنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سُقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
وقال: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيمَ أفناه، وعن علمه: فيمَ فعل؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه: فيمَ أبلاه» ؟، وقال: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»؛ قال ابن حجر: “وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغَلَبَ عليه الكسل عن الطاعة، فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقُبه الشغل، والصحة يعقبها السُّقم، ولو لم يكن إلا الهَرَم كما قيل:
يسُرُّ الفتى طول السلامة والبقا ** فكيف ترى طول السلامة يفعلُ
يرد الفتى بعد اعتدال وصحــة ** ينوء إذا رام القيام ويُحمَـــــــلُ
وقال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلَّف مثلًا بالتاجر، الذي له رأس مال، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرَّى فيمن يعامله، ويلزم الصدق والحِذْقَ؛ لئلا يُغبَن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يُعامِلَ الله بالإيمان ومجاهدة النفس وعدوِّ الدين؛ ليربح خيري الدنيا والآخرة؛ وقريب منه قول الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]؛ الآيات؛ وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان؛ لئلا يضيع رأس ماله مع الربح، وقوله في الحديث: «مغبونٌ فيهما كثير من الناس» كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية، وقال القاضي وأبو بكر بن العربي: اختُلِف في أول نعمة الله على العبد، فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة، وقيل: الصحة، والأول أولَى؛ فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة والصحة، فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقية إلا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذٍ يُغبَن فيها كثير من الناس؛ أي: يذهب ربحهم أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمَّارة بالسوء الخالدة إلى الراحة، فَتَرَكَ المحافظة على الحدود، والمواظبة على الطاعة فقد غُبِنَ، وكذلك إذا كان فارغًا، فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ؛ فإنه يرتفع عنه المعذرة، وتقوم عليه الحُجَّة”؛ [انتهى كلامه].
أقول: والعاقل هو من يَعتِبر بحاله، ويتَّعظ إذا ما وصل إلى سن الضعف والشيبة والهرم، ويستغل باقي حياته في طاعة الله، ولم يضيع نفائس أنفاسه فيما لا يفيد، ويحسن وفادته على ربه، ويهيئ مِهاده قبل الرحيل، والحكيم هو من إذا كبُرت سنُّه يُحوِّل وجهته في الليل – عند حسرة البول – من الحمام إلى محراب القيام، ومن قلق الليل والأسحار إلى عبادة ربه الغفار، الحكيم هو من يفهم هذه النعمة جيدًا، ويعلم حكمة الحكيم سبحانه، وقدرته الكبيرة، وإرادته النافذة، وقوته الكبيرة؛ ليُدرِكَ ساعتها ذلكم العبدُ الموفَّق أنه الضعيف الذليل المسكين بين يدي ربه الفقير إليه، ويدرك لطفه سبحانه به؛ إذ يسوق له ما يصلحه في خفاء، حتى تلكم الشيخوخة والضعف، العاقل الحكيم يدرك ذلك كله، فيشكر ربه على نعمائه، ولا يجزع عند البلاء، بل يصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى القَدَرِ المؤلم، ريثما يُنعِم عليه ربه باللحظة الفارقة المرتقبة بحسن الختام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله عز وجل بعبدٍ خيرًا عَسَلَهُ، وهل تدرون ما عسله» ؟ قالوا: الله عز وجل ورسوله أعلم، قال: «يفتح الله عز وجل له عملًا صالحًا بين يدي موته، حتى يرضى عنه جيرانه، أو من حوله» ، وفي رواية: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عَسَلَهُ» ، قيل: وما عسله؟ قال: «يفتح له عملًا صالحًا قبل موته، ثم يقبضه عليه».
رزقني الله وإياكم حُسْنَ الختام، وصحبةَ خيرِ الأنام في جنات عدن، مُتنعِّمين برؤية وجه ربنا الملك القدوس السلام.
____________________________________________
الكاتب: د. محمد أحمد صبري النبتيتي
Source link