إن الهمزة واللمزة بمعنًى واحد، وقيل: إن الهمزة هو إيذاء الناس بالفعل وبالإشارة، واللمزة إيذاء الناس بالقول، بالغِيبة والنميمة والسخرية.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره المنافقون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]؛ أما بعد:
فيا أيها الأحباب الكرام في الله، دقائق معدودة نعيش وإياكم مع سورة نزلت بسبب أن بعض صناديد قريش استهزؤوا برسول الله وبأصحابه، يسبُّونهم ويلمزونهم، ويُؤذونهم بالقول والفعل، فنزلت هذه الآية لتُبيِّن عاقبة من يؤذي الناس، عاقبة من يؤذيهم بالقول والفعل ومن يعتدي عليهم، فكيف بمن يجعلهم في غيابات الجُبِّ؟ فكيف بمن يقتلهم؟ فكيف بمن يسحلهم؟
عباد الله، دعونا نعيش مع القرآن؛ الله عز وجل يقول: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 1 – 9]، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، {وَيْلٌ} كلمة زجر وردع، ويل: وادٍ في جهنم، لو سُيِّرت به جبال الدنيا لَذَابت من شدة حرِّه، الويل لمن استهزأ، الويل لمن ظلم، الويل لمن تكبَّر، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، قيل: إن الهمزة واللمزة بمعنًى واحد، وقيل: إن الهمزة هو إيذاء الناس بالفعل وبالإشارة، واللمزة إيذاء الناس بالقول، بالغِيبة والنميمة والسخرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «… بحسب امرئ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم …»، الذي استحق هذا الويل وهذا العذاب هو الذي تسبَّب في إيذاء المسلمين.
عباد الله، هذه آيات نزلت في قريش؛ ولذلك لم يُذكر لنا أسماء كفار قريش؛ لأن العِبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن سار في فَلَكِهم، ومن سار في نهجهم، فسينال العقاب كما نالوه.
الذي سخِر واعتدى على الناس، وضرب وقتل وسفك الدماء، لماذا فعل هذا كله؟ لماذا؟ لأن همه الدنيا فقط؛ ثم قال الله: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة: 2]، وفي قراءة: {جمَّع}، بتشديد ميم جمع، تجده مشغولًا بالمال في الصباح والمساء، ينظر إلى ماله وإلى قوته، وإلى سلطته وإلى ملكوته، المهم أن يبقى المال كله، المهم أن يعيش في هذا الملك، ولو أُبيد الناس جميعًا، المهم أن يعيش، قدوته في ذلك فرعون الذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، أين ذهب؟ أين ذهب الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى؟ أين ذهب؟ ألم يتَّعِظِ المجرمون في كل وقت وفي كل زمان؟ ألم يتعظوا بما حصل لإخوانهم ولأتباعهم ولأمثالهم من قبل؟ لكنها الغفلة، لكنها إرادة الله، أراد أن يُخزيهم؛ لأن الإنسان كلما طغى وتمادى، أراد الله أن يفضحه في الدنيا قبل الآخرة، هذا هو حال المجرمين، هذا هو حال الظالمين، فضحهم الله في الدنيا قبل الآخرة؛ لينالوا جزاءهم هنا في الدنيا؛ يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29]، كان المجرمون في الدنيا يضحكون من المؤمنين، فالجزاء من جنس العمل، يوم القيامة المؤمنون يضحكون من المجرمين؛ قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 – 36]، كيف حال الطُّغاةِ والمجرمين اليوم؟ كيف حال طاغية الشام وهو يشاهد المظلومين يفرحون بتدميره وبهلاكه؟ كيف يكون حاله، يتمنى أن تبتلعه الأرض؟ ما أكرم الله! وما أعظم الله جل جلاله سبحانه! {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، الله أكبر، لقد شاهدتم جميعًا تلك السجون الْمُظْلِمة، تلك الحفر العميقة، والتعذيب والأموات، لماذا هذا كله؟ {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3]، ظن أن ماله سيخلده في الدنيا، ظن أنه سيُفلت من عقاب الله، قارون هل خلَّده ماله؟ مفاتيح الخزائن لا يحملها إلا عشرة من الرجال الأوائل، لا يحملها إلا عصبة، ويقول: إنما أُوتيته على علمٍ، ليس من فضل الله، هذا بتعبي وكدي، هل وجد السعادة؟ هل عاش إلى يوم القيامة؟ ماذا كانت النتيجة؟ قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81]، إذًا هذا ذهب وانتهى، هل نفعه ماله؟ هل نفعه أتباعه؟ يحسب أن ماله أخلده، “هارون الرشيد، ومن هو هارون الرشيد، أمير المؤمنين، العابد الزاهد، كان يحُجُّ عامًا، ويُجهَّز جيشًا في سبيل الله عامًا، عندما حضرته الوفاة قال لأتباعه: خذوني إلى قبري، أريد أن أرى قبري قبل أن أدخله، أريد أن أنظر إلى قبري قبل أن أدخله رحِمَه الله، وهو أمير المؤمنين، فينظر إلى قبره ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29]، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29]، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: يا من لا يزول مُلْكُه، ارحم من زال ملكه، وهو عابد تقيٌّ يخاف الله يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه، ارحم من زال ملكه”.
لمن الملك اليوم؟ الله ينادي: لمن الملك اليوم؟ فلم يُجِبْهُ أحد، فيجيب على نفسه: لله الواحد القهار؛ قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 16، 17].
فحقٌّ لكل مسلم موحِّد أن يفرح بما حصل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، وقال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]؛ أي اصطلموا بالعذاب، وتقطَّعت بهم الأسباب؛ {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] على ما قضاه وقدَّره من هلاك المكذبين؛ فإن بذلك تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصَدَّق ما جاءت به المرسلون.
عباد الله، أمَرَنا الله أن نحمَده، وأن نشكره إذا قَطَعَ دابرَ الظالمين ودابر المجرمين، يجب علينا أن نحمَد الله، فالنصر من عند الله وحده، فالنصر هو من عند الله وحده جل جلاله، هذا هو الفرح الممدوح، أما الفرح المذموم، فهو فرح المجرمين؛ شاهِدوا حال المجرمين: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، فلما نسوا ما ذُكِّروا به، ظنُّوا أن أموالهم ستُخلِّدهم، وأنهم لن يموتوا، وأن أتباعهم سيدافعون عنهم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً …} [الأنعام: 44]، ألم يأخُذِ الله ظالم أهلنا في سوريا بغتةً؟ من كان يتوقع أن ينهزم بهذه السهولة، لكنها إرادة الله؛ ولهذا قال الله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 3، 4]، لينبذن – يا إخواني – هي جواب لقسم محذوف؛ أي: كلا والله لينبذن في الحُطَمة، لماذا سُمِّيَت جهنم بالحطمة؟ لأنها تحطِمُ كل شيء، الله أكبر، جهنم تحطِم كل شيء، هذا الذي آثَرَ الدنيا، هذا الذي جمع المال، وظنَّ أن ماله سيُخلِّده، فظلم وبطش، فسيَلْقَى جزاءه هناك في الآخرة: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة: 4 – 6]، وفي الحديث الذي صحَّ إسناده؛ قال عليه الصلاة والسلام: «أُوقِد على النَّارِ ألفَ سنةٍ حتَّى احمرَّت، ثمَّ أُوقِد عليها ألفَ سنةٍ حتَّى ابيضَّت، ثمَّ أُوقِد عليها ألفَ سنةٍ حتَّى اسودَّت، فهي سوداءُ كاللَّيلِ المُظلِمِ»؛ (رواه الترمذي وابن ماجه)، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 5 – 7].
هذا القلب الفاسد، هذا القلب عندما فسد فَعَلَ كلَّ ظُلْمٍ، وكل جُرمٍ في هذه الحياة، فكان جزاؤه أن تصل النار إلى الفؤاد؛ لأن النار إذا وصلت إلى الفؤاد، الأصل أن الإنسان يموت مباشرة، لكن الله أراد أن يعذِّب المجرم، وأن يعذِّب الظالم بسبب جُرمه وظلمه في الدنيا، فيأتيه الموت من كل مكان وما هو بميتٍ؛ كما قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 16، 17]، ثم يقول الله: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 8، 9]؛ يعني: مُغلَقة مُطبِقة، يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9]، العمد قيل: السلاسل، وقيل: إنها محاطة بأعمدة من كل جانب، الله أعلم.
هذا الظالم وهذا المجرم وهذا الكافر الذي سخِر من الصالحين، الذي استهزأ بالصالحين في بداية السورة، الذي سخِر منهم، الذي ظلمهم، الذي قتلهم، لا مفرَّ يوم القيامة، أتباعه ينادُون وهم في جهنم: يا فلانُ، نحن اتبعناك في الدنيا، نحن وقفنا معك، أنْقِذْنا: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167].
الله يا إخواني! ما أعظم هذه السورة القصيرة! هي قصيرة، لكن معانيها عظيمة وكثيرة، فلنعتبر، فافرحوا يا مؤمنون، افرحوا بهلاك المجرمين، فالنصر قادم، والمستقبل لهذا الدين بإذن الله عز وجل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4، 5]، أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يوفِّقنا وإياكم لِما يحب ويرضى، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________________________________________________
الكاتب: ياسر عبدالله محمد الحوري
Source link