فغض البصر من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فغض البصر من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد:
قال تعالى: {﴿ قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ ﴾} [النور:30] فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج
ولهذا كان غضُّ البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر, جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته…فإن من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه.
الفائدة الثانية: نور القلب وصحة الفراسة…فمن غض بصره عما حرمه الله عليه عوضه الله من جنسه ما هو خير منه, فكما أمسك نور بصره عن المحرمات, أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغُضَّه عن محارم الله.
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته.
[كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين ]
فوائد غض البصر:
قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب, فإذا غضَّ العبدُ بصره غضَّ القلبُ شهوته وإرادته, وإذا أطلق بصره أطلق القلبُ شهوته.
وفي غض البصر عدَّة فوائد:
أحدُها: تخليص القلب من ألم الحسرة, فإن من أطلق نظره دامت حسرته, فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسال البصر, فإنه يُريه ما يشتدُّ طلبُه, ولا صبر له عنه, ولا وصول له إليه, وذلك غاية ألمه وعذابه.
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقبـك يـوماً أتعبتك المنـــــــــــــــاظرُ
رأيت الذي لا كلُّه أنــــــــت قـادر عليه ولا عن بعضه أنت صـابرُ
والنظرة تفعلُ في القلب ما يفعلُ السهم في الرميّة, فإن لم تقتله جرحته, وهي بمنزلة الشَّرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه, كما قيل:
كلُّ الحوادث مبـــــــــداها من النَّـظر ومُعظم النار من مُستصغر الشررِ
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك الســـــــهام بلا قوسِ ولا وتـرِ
والمرءُ مت دام ذا عـين يُقلبُهـــــــــــــــا في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسُرُّ مقـــــــــــــــــــــــلتـه ما ضـرَّ مهجـته لا مرحباً بســــــــــرورٍ عاد بالضـررِ
والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر, فهو إنما يرمي قلبه.
الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نوراً, وإشراقاً في العين, وفي الوجه والجوارح.
الفائدة الثالثة: أنَّه يُورث صحة الفراسة, فإنها من النور وثمراته, وإذا استنار القلب صحت الفراسة, لأنه يصيرُ بمنزلة المرآة التي تظهرُ فيها المعلوماتُ كما هي.
الفائدة الرابعة أن يفتح له طرق العلم وأبوابه, ويسهل عليه أسبابه, وذلك بسبب نور القلب
الفائدة الخامسة: أنَّه يُورث قُوَّة القلب, وثباته, وشجاعته.
الفائدة السادسة: أنه يُورث القلب سروراً, وفرحةً, وانشراحاً أعظم من اللذَّة والسرور الحاصل بالنظر, وذلك لقهره عدوه بمخالفته, ومخالفة نفسه وهواه.
السابعة: أنه يخُلِّصُ القلبَ من أسر الشَّهوة, فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه.
الفائدة الثامنة: أنَّه يسدُّ عنه باباً من أبواب جهنم, فإن النظر بابُ الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل.
الفائدة التاسعة: أنه يقوِّي عقله, ويزيده, ويثبته.
الفائدة العاشرة: أنه يخُلِّص القلب من سُكر الشّهوة, ورقدة الغفلة, فإن إطلاق البصر يُوجب استحكام الغفلة عن الله, والدار الآخرة, ويوقع في سكر العشق.
وفوائد غضِّ البصر وآفات إرساله أضعافُ أضعاف ما ذكرنا, وإنما نبهنا عليها تنبيهناً
[كتاب: الداء والدواء]
من آفات إطلاق النظر:
أنه يورث الحسرات, والزفرات, والحرقات, فيرى العبد ما ليس قادراً عليه, ولا صابراً عنه, وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه, ولا قدرة لك على بعضه.
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة, ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة, فيقع الفعل, ولا بد, ما لم يمنع منه مانع.
وفي هذا قيل الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
في غضِّ البصر عدة منافع:
أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده.
الثانية: أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
الثالثة: أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعية على الله.
الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه, كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامسة: أنه يكسب القلب نوراً, كما أن إطلاقه يكسبه ظلمةً
السادسة: أنه يورثه فراسة صادقةً يتميز بها المحق والمبطل, والصادق والكاذب.
السابعة: أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعةً وقوةً.
الثامنة: أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب, فإنه يدخل مع النظرة.
التاسعة: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحة والاشتغال بها, وإطلاق البصر يشتته
وإذا عرف هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه, بل هو مقصود كل حي, وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها, فهي تُذم إذا أعقبت ألماً أعظم منها, أو منعت لذةً خيراً وأجلّ منها, فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات, وفوتت أعظم اللذات والمسرات؟ وتُحمد إذا أعانت على لذة عظيمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجهٍ ما, وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها قال تعالى: {﴿بلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ } [الأعلى:16-17]
غضّ البصر يؤدي إلى حفظ الفرج:
أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم وأن يُعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم, مطلع عليها {﴿يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ﴾} [غافر:19]ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدماً على حفظ الفرج فإن الحوادث مبدأها من النظر كما أن معظم النار من مستصغر الشرر
عدم غض البصر من فخاخ وشباك الشيطان:
الله سبحانه ابتلى…الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين, ينام ولا ينام عنه, ويغفل ولا يغفل عنه, يراه هو وقبيلُه من حيث لا يراه, يبذل جهده في معاداته في كل حال, ولا يدع أمراً يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله…قد نصب له الحبائل,…والفخاخ والشباك, وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم, لا يفوتنكم, ولا يكن حظُّه الجنة وحظُّكم النار, ونصيبُه الرحمة ونصيبكم اللعنة, وقد علمتم أن ما جرى عليّ وعليكم من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله فبسببه ومن أجله, فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية.
ودونكم ثغر العين, فإن منه تنالون بغيتكم, فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر, فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة, ثم أسقيه بماء الأمنية, ثم لا أزال أعدُه وأمنّيه حتى أقوى عزيمته, وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز الشويرخ
Source link