منذ حوالي ساعة
إن الفقرة التي افتتحنا بها الحلقة الأولى من هذا المقال ترتبط بدرجة أكبر بخلافاتنا المعاصرة في قضايا أغلبها من باب فقه السياسة الشرعية..
إن الفقرة التي افتتحنا بها الحلقة الأولى من هذا المقال ترتبط بدرجة أكبر بخلافاتنا المعاصرة في قضايا أغلبها من باب فقه السياسة الشرعية وكلها موضوعات فقهية، صحيح أن المخالفين الذين أشرنا إليهم يصبغون الأمر بصيغة العقيدة وبشعارات تنتمي لموضوعات العقيدة، لكن الأمر ليس هكذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر يزعمون أن قضية التعامل السياسي والعسكري مع الشيعة هي قضية عقيدية بينما في الحقيقة هي قضية فقهية تنتمي لباب فقه السياسة الشرعية، إنما يكون من باب العقيدة موضوع من قبيل تصويب عقيدة الشيعة أو اعتبارها خلاف تنوع أو خلافا جائزا، وهكذا يكيفون العديد من الأمور تكيفيا شرعيا خاطئا فيثيرون زوابع بل عواصف تعصف بوحدة الصف الإسلامي المتدين.
هل الدافع لذلك هو الرياء والنفاق العملي مثل حالة ظاهرة الخوارج وأغلب المبتدعين كما اشرنا في الحلقة السابقة؟؟
ربما ينطبق هذا الوصف على بعض الحالات في هذا المجال، ولكن كثير من الحالات لها توصيف آخر وسبب آخر وهو عدم إدراك الواقع إدراكا سليما ومتكاملا، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
“ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهمُ الواقع، والفقهُ فيه، واستنباطُ علمِ حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع. وهو فهمُ حكمِ الله الذي حكَم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع.
ثم يطبِّق أحدهما على الآخر.
فمَن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدَم أجرين أو أجرًا، فالعالِمُ مَن يتوصَّل بمعرفة الواقع والتفقُّه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”.أ.هـ. [أعلام الموقعين، ط عطاءات العلم، ط ثانية، الرياض 2019، جـ1 ص 189-190].
إذن فالمشكلة هنا هي عدم فهم الواقع فهما سليما، وكما تقول القاعدة الفقهية المتفق عليها بين الفقهاء من كافة المذاهب الفقهية: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”.
فما بالنا لو اجتمع عدم فهم الواقع فهما سليما مع عدم إدراك كل أبعاد الحكم الشرعي وقيوده وشروطه؟؟
وما بالنا لو أضيف لهذا كله اعجابا بالذات وميلا للشهرة أو حبا للظهور والتميز؟
لا شك أن النتيجة لن تكون نافعة لأمتنا الإسلامية التي تمر بأزمات غير مسبوقة في تاريخها كله، وتواجهها تحديات ضخمة من نوعية لم يسبق أن شهدتها الأمة من قبل.
وعلى كل حال فإن في الحديث النبوي المذكور تلميحا لواقع تبزغ فيه هذه الظاهرة وهو واقع الفُرقة ففي الحديث “ويخرجون على حين فرقة من الناس”، ومن هنا نبدأ في تأمل ماهية الأسباب التي من شأنها علاج هذه الظاهرة أو التقليل من آثارها السلبية على واقع الأمة الإسلامية.
فأول سبب هو الطبيعة العقلية والنفسية لهذا القطاع من الناس، ولهذا نجد جدَهم ذا الخويصرة التميمي ظهر في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم ما في صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العلم والبركة الربانية التي تورث حسن الفهم للأسوياء، لكن المنحرفين عقليا ونفسيا منهم من كفر في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من نافق ومنهم من صار من المرائين، قال الله تعالى : {“لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون”} [سورة الأعراف آية 179] .
وثاني سبب هو عدم فهم الواقع وعدم إدراك حقيقة ما وقع ويقع، بما في ذلك عدم القدرة على استخدام القرائن والأمارات والعلامات لإدراك حقائق ما وقع ويقع في الواقع.
ثم هناك سبب آخر وهو مساعد وليس مستقلا لكنه مهم ومؤثر، وهو الفُرقة بين النخبة المسلمة، لأن هذه الفُرقة بين النخبة المسلمة تصنع فراغا في نسق القيادة والتوجيه الفكري والحركي الإسلامي يسمح بانتعاش وتصاعد تأثير هذه الفئة من المنحرفين فكريا المرائين سلوكيا.
ومن هنا فإن علاج هذه الظاهرة قائم على مواجهة هذه الأسباب وإحباط تأثيرها السلبي في واقع المسلمين، فالطبيعة العقلية والنفسية المعجبة بذاتها ورأيها والمولعة بحب الشهرة والظهور والرياء تكون مواجهة مشكلتها بالعمل الإسلامي الدعوي والتربوي لأن هذه النوعية بحاجة كبيرة للعمل بموجب قوله تعالى: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” سورة الجمعة آية 2، فالتزكية مقدمة على التعليم لأن العلم لا يصل أثره الحقيقي للقلوب والعقول ما لم تتزك النفس، فالنفس الزكية هي التي تتقبل العلم النافع وتفهمه بينما النفس المولعة بالرياء والاعجاب بالذات لن تتقبل العلم النافع غالبا وفي أغلب الأحيان قد لا تفهم العلم النافع ولا الحقائق الدامغة قال الله تعالى: “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” سورة الحج آية 46.
أما السبب الثاني وهو عدم فهم الواقع وعدم إدراك حقيقة ما وقع ويقع، بما في ذلك عدم القدرة على استخدام القرائن والأمارات والعلامات لإدراك حقائق ما وقع ويقع في الواقع، فعلاجه يكون بالتعليم لفقه الواقع وهو تعليم يجب أن يكون تاليا للتزكية أيضا لتتجرد النفس من حظوظها وتركز بصرها على الخصائص الموضوعية لحقائق الواقع ومعالمه فتراها بعين الصدق لا بعين التوهم المنحاز لنوازع النفس وشهواتها الذاتية.
ولقائل أن يتسائل محقا: هل كان العمل الدعوي والتربوي والتعليمي غائبا في عصر سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وسيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حتى أدى ذلك لظهور هؤلاء الخوارج ومن شابههم؟؟
وإجابة هذا السؤال تنقلنا إلى السبب الثالث الذي قلنا آنفا أنه عامل مساعد وليس عاملا مستقلا في انعاش حركات المعجبين بذواتهم -المرائين- هذه وهو الفُرقة بين النخبة الإسلامية، فالسبب الأكثر تأثيرا في عصري الخليفتين عثمان وعلي هو هذه الفُرقة.
فكيف نقول أنه عامل مساعد وليس مستقلا ثم نقول إنه السبب الأكثر تأثيرا؟..
لأننا لو فرضنا جدلا أن الفُرقة وجدت ولم يكن هناك أشخاص لديهم هذه الصفات النفسية من الاعجاب بالذات والرياء فلا شك أن هذه الظاهرة لن تتشكل في الواقع.
وبشكل عام فإن وحدة النخبة الإسلامية وقوتها وفرضها واقعا إسلاميا سليما على أرض الواقع السياسي والاجتماعي والدعوي والتعليمي كل هذا يجعل هذه الظاهرة تنزوي ولا تظهر الا في حالات فردية محدودة، أو حركات اجتماعية ضئيلة العدد ومنعدمة التأثير، لكن حتما ودائما توجد هذه النوعيات من الناس، لأنها جزء من القدر الكوني، ولكن العبرة هي في مدى انتشارها وفي مدي الحد من آثارها السلبية على مجتمع وفكر المسلمين.
Source link