إن شهر شعبان هو الموسم الختاميُّ لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبِمَ سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يُرفع عملك إلى الله؟
الحمد لله الذي رفع السماء بلا عَمَدٍ، الحمد لله الذي خلق الخَلق وأحصاهم عددًا، الحمد لله الذي رزق الخلق ولم ينسَ منهم أحدًا، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا كثيرًا بلا عدد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم عليك يا رسول الله:
يا خير من دُفنت في القاع أعظُمه ** فطاب من طيبهن القاعُ والأكَـمُ
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنــــــــه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
أنت الحبيب الذي تُرجى شفاعتـه ** عند الصراط إذا ما زلَّتِ القـــدمُ
أما بعد:
فيا أيها المسلمون عباد الله:
ها هي أعمارنا وآجالنا تُطوى يومًا بعد يوم، وها هو شهر شعبان قد حلَّ ضيفًا علينا، وهو شهر غفل الناس عن فضائله ومِنحه وجوائزه الربانية؛ فقد شرع فيه جميع أعمال البِرِّ من الصدقة وقراءة القرآن والذكر، والصيام وصلة الأرحام.
تقرير مُشرِّف سنوي في شعبان لأهل الإيمان؛ وذلك لما ثبت عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، لم أرَك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجبٍ ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم»؛ (سنن النسائي، وصححه الألباني).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُكـثر من الصيام فيه؛ لتكون أعماله حين تُرفع محلًّا للعفو والمغفرة، فالصـوم لا مثل له، وهو جُنة ووقاية من عذاب الله، وقد أجزل الله ثواب الصائمين، وجعل لهم فرحة عند لقائه عز وجل.
عباد الله:
شعبانُ شهر كريم مبارك أظلَّنا عن قريب، فأهاج مشاعر الهداية والإيمان، وهتف بنا إلى الطاعة والعبادة والإحسان؛ فهو مقدَّمة لشهر رمضان المبارك، وتمرين للأمة الإسلامية على الصيام والقيام وصالح الأعمال؛ حتى يذوقوا لذة القرب من الله تعالى، ويستطعموا حلاوة الإيمان، فإذا أقبل عليهم شهر رمضان، أقبَلوا عليه بهمَّة عالية، ونفس مشتاقة، وانكبوا على الطاعة، وعكفوا على العبادة.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تعالى قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يُفطر، ويُفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيام منه في شعبان))؛ (متفق عليه)، وفي رواية في صحيح مسلم: ((وكان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلًا)).
فأيام العمر تتصرم، وساعات الحياة تنقضي؛ فقدِّم لنفسك صالحًا قبل حلول ساعة الأجَل، وهذه الغنيمة بين يديك، ولئن كان النهار طويلًا والحر شاقًّا، فأنت ترجو الراحة الأبدية في جنات الخلود.
فإن شهر شعبان هو الموسم الختاميُّ لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبِمَ سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يُرفع عملك إلى الله؟
هي لحظة حاسمة في تاريخ المرء، يتحدد على أساسها رفع أعمال العام كله إلى المولى تبارك وتعالى؛ القائل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
معاشر المسلمين الموحدين:
شعبانُ فرصة لمحو الأحقاد من القلوب، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود؛ وليكن شعارنا جميعًا قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]؛ قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخِصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو.
وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه، هي فرصة لكل من سوَّلت له نفسه التجرُّؤ على الله بارتكاب معاصيه، هي فرصة لكل مسلم قد وقع في خطأ: «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون»، هي فرصة – إذًا – لإدراك ما فات، وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوَّة من الذنوب، وناصعة البياض بالطاعة.
عباد الله:
إذا كان شعبان شهرًا للصوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شهر لنوافل الطاعات كلها، ينطلق فيه المسلم كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه»؛ (البخاري).
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان؛ فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، فهو ميدان للمسابقة في الخيرات والمبادرة للطاعات قبل مجيء شهر الفرقان، فأرُوا الله فيه من أنفسكم خيرًا.
يقول سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 – 136].
فشعبان هو شهر السقي والتعهد والتفقُّد لِما قام به المسلم في سابق أيامه؛ حتى يجني الحصاد بعده؛ قال أبو بكر البلخي: “شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع”، وقال أيضًا: “مَثَلُ شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغَيم، ومثل رمضان مثل المطر”.
ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يَسْقِ في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!
ولذلك كان تسابُقُ السلف الصالح على هذا الأمر واضحًا؛ قال سلمة بن كهيل: كان يُقال: شهر شعبان شهر القرَّاء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان، قال: هذا شهر القرَّاء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان، أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن.
فأدرِك زرعك – أخي الحبيب – في شهر شعبان، وتعهَّده بالسقي وتفقَّده ألَّا يُصاب بالجفاف.
احرص – أخي المسلم – أن تُرفع صحائف أعمالك إلى الله في هذا الشهر، وهي مليئة بالاستغفار، مليئة بالتوبة، مليئة بالصدقات، مليئة بحب الآخرين، مليئة بصفاء القلب، مليئة بصِلَةِ الأرحام، مليئة بإغاثة الملهوف.
احرص على أن يُرفَع لك تقرير مشرِّف إلى ربك جل وعلا في هذ الشهر الكريم، شهر رفع الأعمال ورفع التقارير إلى الله سبحانه وتعالى.
أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يُعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم أصلحنا وأصلح شباب المسلمين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلِك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين، اللهم كُنْ للمستضعفين في كل مكان، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه…
Source link