منذ بداية العدوان على غزة وشعار اليوم التالي يشغل المحليين المراقبين والساسة الفاعلين على حد سواء وهو يطرح في طياته مستقبل الشعب الفلسطيني في غزة ومستقبل حماس على حد سواء، ويبدو أن إجابة التساؤل ليست عند الصهاينة ولا الأمريكان
“نحن اليوم التالي” كان هذا هو الشعار الرئيسي المكتوب على المنصة في دير البلح في قطاع غزة، حيث أُقيمت مراسم إطلاق سراح ثلاثة من الأسرى الصهاينة لدى المقاومة في غزة في المرحلة السادسة من صفقة التبادل.
والذي يرصد تداول جملة اليوم التالي لحرب غزة، سيجد أنه من بين أكثر المصطلحات التي جرى استخدامها وتداولها إعلامياً منذ بداية العدوان الصهيوني على قطاع غزة، والذي أعقب طوفان الأقصى الذي قادته حماس.
ولكن “اليوم التالي” بدا أكثر تداولاً في الأسابيع الأخيرة، خاصة مع اقتراب تطبيق المرحلة الثانية من الصفقة والتي سيتم فيها تحديد مصير غزة ومن يحكمها، وإذا لم يتم الاتفاق على تلك النقطة، فإنه قد تنهار الصفقة بين الكيان الصهيوني وفصائل المقاومة الفلسطينية، مما يؤدي إلى زيادة فرص العودة إلى القتال مرة أخرى. وهذا يشي بأن هناك صراعاً سياسياً مستعراً بين الطرفين، على من سيستطيع صياغة اليوم التالي لحرب غزة. وهنا يكمن السؤال الأصعب، من سيستطيع فرض إرادته وتصوره على الطرف الآخر، المقاومة أم الكيان؟ أم أن الأمر سيتم تأجيله لجولة من الحرب؟
لا شك أن نتيجة الصراع على اليوم التالي لن يحسمه الصهاينة وحدهم، فهناك حماس والمقاومة، وهناك الولايات المتحدة، ويوجد أيضاً الدول العربية، ولكننا في هذا المقال سنقتصر بالتركيز على تحليل الرؤية الصهيونية، ونحاول استعراض الخطط المعروضة على الساحة، أو حتى التي يتم تداولها في الكواليس ويتم تسريبها إعلامياً، كبالونة اختبار أحيانا، أو كورقة أولية سيجري التفاوض حولها، أو غير ذلك، ومن ثم يمكن توقع أي من هذه الخطط قابلة للتحقيق أو تكون احتمالات تنزيلها على الواقع أقرب.
الخطط الإسرائيلية:
يجب أن نفرق بين التصريحات العلنية التي تأتي على لسان المسؤولين والساسة الصهاينة، والتي يبدو أن هدفها في النهاية هو رفع سقف طلبات دولة الكيان إلى أقصى مدى، وبين الواقع الفعلي والذي ستقبله دولة الاحتلال لاحقاً، وهذا يمكن استنباطه من تحليلات كبار الخبراء والكتاب الاستراتيجيين الصهاينة.
الرؤية الصهيونية الرسمية المعلنة لا زالت تدور حول نزع سلاح حماس، وإدخال قوات عربية أو دولية لتتولى ذلك بعد أن عجز الجيش الصهيوني ومن وراءه من مساندة أمريكية مطلقة، عن هزيمة حماس ومن ثم نزع سلاحها.
على المستوى الرسمي العلني، ففي بداية طوفان الأقصى، وأثناء زيارة الرئيس الأمريكي حينها جو بايدن إلى الكيان الصهيوني، سُئل رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عن خطط إسرائيل للمرحلة التالية من الحرب، وكانت إجابة نتنياهو خالية من أي مضمون أو خطة محددة، حيث قال: “عندما نصل إلى اليوم التالي، سنتحدث عن اليوم التالي”. يعلق رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، والجنرال المتقاعد، صاحب خطة الجنرالات، غيورا آيلاند على هذا التصريح في مقال له في صحيفة يديعوت أحرنوت، حيث اعتبر أن تصريح نتنياهو إهانة وتخلياً عن الحاجة إلى رؤية سياسية لإدارة مرحلة ما بعد الحرب. وعلى حد تعبيره، كان من الأفضل لو أن الحكومة الإسرائيلية أوضحت موقفها بأن إسرائيل ليس لها مصلحة إقليمية أو سياسية في غزة، بل لها مصلحة أمنية تتلخص في نزع السلاح الكامل للمنطقة. وكان يجب على إسرائيل أن تكون مستعدة لمناقشة أي خطة مع الدول العربية أو الغربية تتعلق بتوفير بديل سياسي يمكن أن يضمن نزع السلاح بشكل دائم.
ورأى آيلاند أن “إسرائيل” بحاجة إلى إعادة تقييم إستراتيجياتها العسكرية والسياسية في الحروب القادمة. وأردف، فالضغط العسكري وحده لا يكفي لتحقيق الأهداف الكبرى في الصراعات، بل يتطلب الأمر التفكير العميق في الوسائل الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام المعادي، وتحقيق الأهداف الأمنية والسياسية على المدى البعيد. وبحسب الجنرال، فإن الفشل في تبني هذه الإستراتيجيات قد يؤدي إلى نتائج غير مضمونة ويطيل أمد الحرب على القطاع دون تحقيق الانتصار الشامل.
ثم يعود نتانياهو بعد تسعة شهور من تصريحه الأول والذي رفض فيه الحديث عن اليوم التالي، للبدء في طرح خطته لذلك اليوم، ويبدو بعد أن تيقن أن حملته العسكرية للإبادة على غزة قد أصبحت غير مجدية، وتكلف الكيان كثيراً من الخسائر. ففي يوليو الماضي تحدث نتانياهو لصحيفة يديعوت أحرنوت عن تصوره لليوم التالي للحرب في غزة، ووفقاً لما نقلته الصحيفة عن نتانياهو فإنه أكد ضرورة أن يكون هناك نزع سلاح دائم في قطاع غزة، وأن يكون هناك حكم مدني وألا يقتصر دوره فقط على توزيع المساعدات على الفلسطينيين.
وأضاف نتنياهو أن أفضل طريقة للقيام بذلك هي التعاون مع رعاية عربية مشتركة ومساعدة من الدول العربية لإقامة الحكم المدني في القطاع. وتحدث نتانياهو عن إعادة إعمار غزة وأعرب عن اعتقاده أن المجتمع الدولي سوف يتولى المسؤولية إلى حد كبير، وذكرت جهات أمنية في إسرائيل أنها بحثت مسألة توزيع الأسلحة على القادة المحليين والعشائر في قطاع غزة من أجل الدفاع عن النفس وتولي مسؤولية إدارة القطاع بدلاً من حركة حماس.
ثم يجيء دور وزير الدفاع السابق يوآف غالانت الذي طرح بدوره إمكانية إنشاء قوة عسكرية متعددة الجنسيات تضم قوات عربية لحفظ الأمن والنظام وحماية قوافل المساعدات الإنسانية.
أي أن الرؤية الصهيونية الرسمية المعلنة لا زالت تدور حول نزع سلاح حماس، وإدخال قوات عربية أو دولية لتتولى ذلك بعد أن عجز الجيش الصهيوني ومن وراءه من مساندة أمريكية مطلقة، عن هزيمة حماس ومن ثم نزع سلاحها. ولكن يبقى السؤال الأهم، هل سيستطيع نتانياهو فرض رؤيته تلك؟
هناك عدة عوامل ستعمل على تقويض تلك الخطة الصهيونية وإضعافها: منها العجز العسكري الصهيوني عن كسر المقاومة الفلسطينية، ومنها أيضاً رؤية ترامب، ثم الموقف العربي، وأخيراً موقف حماس.
بالنسبة للعجز الصهيوني، والذي يتم اعتباره بالنسبة للكتاب والصحفيين الصهاينة عجزاً استراتيجياً، ويدعون إلى الرجوع إلى حلول واقعية. يقول العميد احتياط أودي ديكل، وهو باحث بارز في معهد أبحاث الأمن القومي: دعونا نحاول فعل شيء مختلف، لنحاول الربط بين المرحلة الثانية من الصفقة وبين ضرورة دخول قوات عربية لتولي المسؤولية عما يجري في غزة.
وضع حماس، ورفعها شعار “نحن اليوم الثاني” وإبراز هذه الكلمات في وقت تسلط فيه جميع الكاميرات على تبادل الأسرى، فإنه يعتبر إرسال رسالة إلى الجميع بأن هذا هو ردها على مقولة اليوم التالي.
وفي هذا الطريق يدعو الكاتب الصهيوني ميخائيل ميلشتاين في مقال في صحيفة يديعوت أحرنوت، إلى فحص المبادرة التي تطرحها مصر لإقامة حكم بديل في غزة، يقوم على أساس مندوبين عن السلطة وجهات مستقلة. من الضروري أن نكون واعين: صحيح أن حماس لن تكون الحاكم الرسمي في القطاع، لكن واضح أنها ستواصل التأثير من خلف الكواليس على عموم المجالات والاحتمال بأن توافق على نزع سلاحها طفيف. لقد وافقت حماس على هذا المنحى قبل بضعة أشهر، والعالم العربي يعمل الآن على تحققه بنشاط، بأمل أن يرضي ترامب الذي لعله يرى فيه تحقيقاً بهدف “غزة بلا حماس”، ويكون بذلك مستعداً لأن يترك رؤياه لترحيل الغزيين وإسكانهم في مصر وفي الأردن. هذا الوضع في نظر الكاتب الصهيوني، بعيد عن أن يكون مرضياً وينبغي التعاطي معه كحل مؤقت، لكنه أفضل من كل باقي البدائل.
أما العامل الثاني الذي يعرقل تطبيق المشروع الصهيوني في غزة واستمرارها للقتال فهو رؤية ترامب. فقد يظن الكثيرون أن خطة ترامب بتهجير أهل غزة ومن ثم امتلاكها وإقامة ريفيرا هي خطة نهائية، ولكن يبدو أن موقف ترامب هذا ليس استراتيجياً بل إنه تكتيكياً. ففي يوم الجمعة الماضي، وفي مؤتمر صحفي بدا ترامب متراجعاً خطوة إلى الوراء عندما وصف خطته، بأنها مقترح وليس كما ادعى في السابق أنها خطة سيتم تنفيذها رغم أنف المعارضين لها. والذي يتتبع سياسة ترامب يعرف أن الرجل يتتبع استراتيجية المجنون، والتي يتم فيها تعلية المطالب بطريقة استفزازية صارخة، ثم يتولى المستشارون المقربون المفاوضات والضغط على أطراف الصراع للحصول منهم على تنازلات لتكون مطالباتهم أكثر واقعية، وأكثر قرباً من الرؤية الأمريكية.
ولذلك فالذي يريد معرفة التوجهات الأمريكية الحقيقية تجاه غزة، عليه أن ينظر إلى تصريحات المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، فهي التي تعبر عن السقف الأمريكي الفعلي في قضية غزة.
أما العامل الثالث، فيتجلى في الموقف العربي الرسمي، والذي أصبح مصالح دوله مرتبطة بهدوء الوضع في غزة، وعدم الانتقال النهائي إلى وضع التهجير الذي سيفجر الأوضاع في المنطقة، ولذلك تداعت الدول العربية، إلى تنسيق المواقف للخروج بموقف عربي موحد يتمثل في عقد مؤتمرين: الأول هو قمة في الرياض للدول العربية المؤثرة في الوضع المرسوم لغزة، وهي الدول الخليجية بالإضافة إلى مصر والأردن، بالإضافة إلى القمة الثانية وهي تشمل كل الدول العربية لتبني ما يصدر عن القمة الأولى لتعزيز قراراتها.
أما وضع حماس، ورفعها شعار “نحن اليوم الثاني” وإبراز هذه الكلمات في وقت تسلط فيه جميع الكاميرات على تبادل الأسرى، فإنه يعتبر إرسال رسالة إلى الجميع بأن هذا هو ردها على مقولة اليوم التالي. وهذا ما عبر عنه القيادي في حماس أسامة حمدان عندما صرح قائلاً، إن ما عجز عن تحقيقه الكيان الصهيوني طيلة خمسة عشر شهراً من كسر المقاومة، لن يأخذه على طاولة المفاوضات، وستتعامل المقاومة مع دخول أي قوات عسكرية للقطاع، كما أنها قوات صهيونية، وفي نفس الوقت فإن حماس ترسل إشارات بأنها مستعدة على التخلي عن إدارة غزة سياسياً واقتصادياً، وأمنياً لقوات شرطة فلسطينية محايدة لا تنتمي لفتح أو حماس، وربما تقبل بجوار هذه الشرطة قوات مصرية، مع احتفاظها بكامل سلاحها وقواتها، كما جاء في تسريبات صادرة عن الجانب المصري.
____________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي
Source link