وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) }
{{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا}} الوهن: ضعف النفس، وقد يؤدي إلى ضعف الجسم عن العمل، والحزن ألم نفسي يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه، أو عند نزول أمر يهمُّ النفس، ويجعلها في هم دائم، ومعنى النهي عن الوهن والحزن -وهما أمران نفسيان- هو النهي عن الاسترسال في الألم مما أصابهم، والمغزى: لَا تسترسلوا في الهم والألم مما كان يوم أحد، فإن ذلك يؤدي إلى ضعفكم عن القتال، فليس النهي منصبا على أصل الوهن والحزن، ولكنه منصب على سببهما الذي هو في قدرة المؤمن وهو الاسترسال في الوهن والحزن.
والآية تشجيعٌ للمؤمنين وتقويةٌ لقلوبهم وتسليةٌ عما أصابهم يوم أحُدٍ من القتل والقرحِ، وروي أنه قد قُتل يومئذ خمسةٌ من المهاجرين: حمزةُ بنُ عبدِ المطلّب ومصعبُ بنُ عميرٍ صاحبُ رايةِ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ ابنُ عمةِ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعثمانُ بنُ مظعونٍ وسعدٌ مولى عتبةَ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين، ومن الأنصار سبعون رجلاً رضي الله عنهم.. أي لا تضعُفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزَنوا على مَنْ قُتل منكم.
فذكر الله -سبحانه وتعالى- حال إقدامهم وحال إدبارهم، حال إقدامهم نهاهم عن الضعف، وهذا يعطيهم قوة وإقداماً، وحال إدبارهم نهاهم عن الحزن، وهذا يعطيهم إعراضاً عما وراءهم وعدم الالتفات إليه.
ومعلوم أن الحزن يكون فيما يسوء، والحزن على ما مضى لا يفيد الإنسان، بل يفتر عزيمته، ويقلق راحته ولا يستفيد منه بشيء، فلهذا نهاهم الله -سبحانه وتعالى- عما يعوقهم حال الإقبال، وعما يعوقهم حال الإدبار .
{{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}} علو المنزلة.. أي والحالُ أنكم الأعلَوْن الغالبون دون عدوِّكم فإن مصيرَ أمرِهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال أسلافِهم، فهو تصريحٌ بالوعد بالنصر والغلبةِ بعد الإشعارِ به فيما سبق.
أو وأنتم المعهودون بغاية علوِّ الشانِ لما أنكم على الحق وقتالُكم لله -عز وجل- وقَتْلاكم في الجنة، وهم على الباطل وقتالُهم للشيطان وقَتْلاهم في النار.
والمعنيان متلازمان؛ لأنه من كانت حاله العلو فإنه لن يضعف ولن يحزن، ومن اعتقد أنه الأعلى فسوف لا يجبن ولا يحزن.
قال في زهرة التفاسير: تسلية للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من حيث إن فيها بيانا لأنهم أعلى، ومعنى العلو أنهم قد كان لهم غلب أكثر مما كان للمشركين، فقتلى المشركين يوم بدر أكثر من قتلى المؤمنين يوم أحد، والمؤمنون في أُحد ذاتها قد كانوا أعلى منزلة من الكفار؛ لأن قتلى المؤمنين في الجنة، وقتلى المشركين في النار؛ ولأن قتال المؤمنين في سبيل الحق، وقتال المشركين في سبيل الطاغوت، وأي علو للإنسان أكثر من أن يشعر بأنه يقاتل لنصرة الحق، ويغالب في سبيله، فإن الحق في ذاته عزة وعلو، وفوق ذلك في النص بشارة بأن العاقبة للمتقين، وهو العلو في الأرضِ، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةَ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
{{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}} هذا شرط للعلو؛ يعني أنتم الأعلون في حال كونكم مؤمنين، والإيمان أخص من الإسلام؛ لأن الإسلام يقع من المنافق وضعيف الإيمان، والإيمان لا يكون إلا من كامل الإيمان، من المؤمن حقا، ولهذا قال الله تعالى: {{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا}} لماذا؟ {وَلَمَّا} حرف نفي يدل على قرب المنفي؛ يعني أن الإيمان قريب ما يدخل قلوبكم أما الآن فلا {{يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} } [الحجرات:14]
أي إن كنتم مؤمنين فلا تهِنوا ولا تحزَنوا فإن الإيمانَ يوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع الله تعالى وعدمَ المبالاة بأعدائه.
وقيل: {{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}} يعني الغالبين على الأعداء بعد أحد. فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ثم بعد انقراضهم ما افتتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت.
** وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة؛ لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه؛ لأنه قال لموسى: {{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}} [طه:68] وقال لهذه الأمة: {{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}} . وهذه اللفظة مشتقة من اسمه «الأعلى» فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين: {{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}} .
قال منذر بن سعيد: “يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم في الأصلح”.
{{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}} القرح: أثر السلاح في الجسم كالجرح، وتضم القاف (قُرْحٌ) فيكون بمعنى الألم. فالقرح على هذا أثر الجراحات في الظاهر، وبالضم أثرها في الباطن.
وقيل: وهو هنا مستعمل في غير حقيقته، بل هو استعارة للهزيمة التي أصابتهم، فإن الهزيمة تشبه بالثلمة وبالانكسار، فشبهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد، ولا يصح أن يراد به الحقيقة لأن الجراح التي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر، فلا شك أن التسلية وقعت عما أصابهم من الهزيمة.
{{فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ}} مشركو مكة ومن معهم {{قَرْحٌ مِثْلُهُ}} أي إن مسكم قتل أو جراح في أحُد فقد مس الكفارَ مثلُه في بدر.. قال تعالى: {{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}} [آل عمران:165] ففي أحد قتل منكم سبعون لكن في بدر قتل من عدوكم سبعون وأسر سبعون، أي الضعف.
والتعبير عما أصاب المسلمين بصيغة المضارع في {يَمْسَسْكُمْ} لقربه من زمن الحال، وعما أصاب المشركين بصيغة الماضي {{مَسَّ} } لبعده لأنه حصل يوم بدر.
وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمرَ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً منهم صاحبُ لوائِهم وجرحوا عدداً كثيراً وعقَروا عامة خيلِهم بالنبل، كما قال تعالى: {{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ}} [آل عمران:152].
والمعنى: فإنهم نالوا منكم ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي «والتأسي فيه أعظم مسلاة». وأن ذلك غير عجيب في الحرب، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب.
قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي . . . على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن . . . أعزي النفس عنه بالتأسي
ولهذا أشار القرآن:
– {{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً}} [النساء:104]
– { {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}} [الزخرف:۳۹] فاشتراككم في العذاب لم ينفعكم ولم يخفف عنكم الألم.
{{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ}} والمراد بها ما يجريه الله من تصاريف الحياة من خير وغيره وإعزاز وإذلال.
{نُدَاوِلُهَا} الدُّولَة الكرة، وصيغةُ المضارعِ الدالةُ على التجدد والاستمرارِ للإيذان بأن تلك المداولةَ سنةٌ مسلوكةٌ فيما بين الأممِ قاطبةً سابقتِها ولاحقتِها.
وأتت بصيغة «نون العظمة» إشارة إلى أن الله -عز وجل- لكمال سلطانه وكبريائه يديل الناس بعضهم على بعض، فتارة تكون أياماً لهؤلاء، وتارة تكون أياماً لهؤلاء .
{{بَيْنَ النَّاسِ}} نُصَرِّفها بينهم: نُديلُ لهؤلاء تارةً ولهؤلاء أخرى. وفيه ضربٌ من التسلية.
قال في البحر المحيط: “أخبر تعالى -على سبيل التسلية- أن الأيام على قديم الدهر لا تبقي الناس على حالة واحدة. والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر، يصرفها الله على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كما جاء: «الحرب سجال»”.
فسنة الله قائمة، لا نصر يدوم، ولا هزيمة تدوم، لأنه لو دام النصر لكان الغرور، ومع الغرور الطغيان، ووراء ذلك الترف، وإذا أصاب الترف نفوس الشعوب ذهبت نخوتها وضؤلت قوتها كما توقع الصِّدِّيق خليفة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعرب عندما توالى انتصارهم: “والله لتألمن من النوم على الصوف الأذربى [أي صوف أذربيحان] كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان [نبات شوكي وهو من أفضل مرعى الإبل]”
{{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ}} تعليل للجملة التي قبلها {{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}} {{الَّذِينَ آمَنُوا}} علم وجود، وعلم يترتب عليه الجزاء.. فعلم الله تعالى لا يتجدد، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها إذْ علمه لا يطرأ عليه التغير.
والمعنى: ليعلم ذلك علماً ظاهراً لكم تقوم به الحجة إذ هو الذي يدور عليه فلكُ الجزاءِ.
أو ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم، وإلا فقد علمهم في الأزل.
أو: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم”.
وقال القرطبي: “وإنما كانت هذه المداولة ليُرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض؛ كما قال: {{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا}} {} [آل عمران:166-167].
إذن علم الله في هذا المقام على وجهين:
أحدهما: أن يكون علم الله الذي ثبت بالواقعة هو علم الجزاء أي يتحقق فيهم جزاء الله تعالى.
والوجه الثاني: أن يراد تمييز قوى الإيمان من ضعيف الإيمان فيتميز الخبيث من الطيب، ويكون هذا من قبيل التمثيل، أي فعل الله تعالى ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت… والمؤدى في الأقوال كلها واحد.
والمؤمن يرضى بمداولة الله الأيام بين الناس رضاً تاماً؛ إن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر، ويعلم أن ذلك بتقدير الله فيرضى ويسلم، لكن غير المؤمن بالعكس إن أصيب بالسراء أشر وبطر، وإن أصيب بضراء ضجر وتسخط، يقول الله سبحانه وتعالى: {{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}} [الحج:11] وكم من إنسان ارتد لأنه أصيب بمصيبة والعياذ بالله .
{{وَيَتَّخِذَ}} في لفظ الاتخاذ المُنْبىءِ عن الاصطفاء والتقريبِ من تشريفهم وتفخيمِ شأنِهم ما لا يخفى.
فلم يقل: وليوجد. بل قال: {{وَيَتَّخِذَ} } فهؤلاء الشهداء اتخذهم الله واصطفاهم لنفسه جل وعلا. لأن الشهادة فضيلة من الله، واقتراب من رضوانه.
{{مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}} ويُكرِمَ ناساً منكم بالشهادة فيُقْتَلُون في سبيله، ويَبْذُلون مُهَجهم في مرضاته.
قيل: سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة.
وقيل: سمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة؛ فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح.
والشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}} [التوبة:111] الآية. وقوله: {{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}} إلى قوله: {{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}} [الصف:10 -12]
وفي سنن النسائي -بسند صحيح- عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:: «(الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمُ الْقَرْصَةَ يُقْرَصُهَا)» وفي رواية الترمذي: «(مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ)»
وروى النسائي –بسند صحيح- عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: (كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً)»
وفي البخاري: «بَاب مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْيَمَانُ وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ».
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ.
قَالَ قَتَادَةُ وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ. قَالَ: وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَوْمُ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
وعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟) فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. وَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا» .
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَجَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْهَوْنِي وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَنْهَ. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(لَا تَبْكِيهِ أَوْ مَا تَبْكِيهِ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ)»
وعَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أُرَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ اللَّهُ مِنْ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ)»
وعَنْ خَبَّابٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ. فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ أَوْ قَالَ أَلْقُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ) وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا» . [صحيح البخاري]
{{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}} اعتراضٌ مقررٌ لمضمون ما قبله، ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريضٌ بمحبته تعالى لمقابليهم.
وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين، فإنهم بانخذالهم، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل الله.
وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من إدالة الكفار، ليس سببه المحبة منه تعالى، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة. وأن مناط انتفاء المحبة هو الظلم، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة.
{{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}} يختبر أو يطهر أو يخلص.. ثلاثة أقوال.
قال الخليل: يقال مَحِصَ الحبل إذا انقطع وبره؛ ومنه “اللهم محص عنا ذنوبنا” أي خلصنا من عقوبتها. وقال أبو إسحاق الزجاج: قرأت على محمد بن يزيد عن الخليل: التمحيص التخليص؛ فالمعنى عليه: ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. فيُطهرَهم من الذنوب، إن كان لهم ذنوب وإلا رُفعَ لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به.
وهو معطوف على ما تقدم من تعزية المؤمنين لما أصابهم يوم أحد.
وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع الفصلِ بينهما بالاعتراض.
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن التمحيصِ.
وهذه الأمورُ الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان.
ولعل تأخيرَ العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظالمين. والمعنى على هذا أن هذا القرح الذي أصاب المؤمنين خلصهم مما كان يشوب قلوبهم من أعراض الدنيا، وخلصهم ممن كانوا يخالطونهم من ضعاف الإيمان والمنافقين، إذ تبين خبثهم، فصاروا لَا يجدون لقولهم سامعا، ولا لدعوتهم إلى التردد والهزيمة مجيبا.
{{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}} أي يستأصلهم بالهلاك. فالتمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ الأوضارِ، والمَحْقَ عبارةٌ عن النقض والإذهابِ.
قال المفضِّلُ: هو أن يذهبَ الشيءُ بالكلية حتى لا يرى منه شيءٌ، ومنه قولُه تعالى: {{يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا} } {} [البقرة:276] أي يستأصله.
وقيل: أي ينقصهم، إذ المحق معناه النقصان، ومنه المُحَاق لهلال آخر الشهر، لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفي.
فهو تعالى إذا نصرهم يكون سبباً لمحقهم، لأنهم إذا انتصروا علوا واستكبروا وانتفخوا في أنفسهم، وظنوا أن لهم السيطرة دائماً، فحينئذ يعيدون الكرة مرة أخرى لقتال المسلمين، وبذلك يكون محقهم لأن العزائم قد تحفزت حذرة لمنازلتهم، فكانت الهزيمة سبيلا للنصر، وكان الجرح سبيلا لإعلاء كلمة الله تعالى.
قيل: وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر، لأن التمحيص إهلاك الذنوب، والمحق إهلاك النفوس، وهي مقابلة لطيفة في المعنى.
وقد سأل هرقل أبا سفيان: فقال هرقل: “وكذلك الرسل تبتلى وتكون لهم العاقبة”.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link