إن العبد المؤمن يعلم أن رب رمضان هو رب الشهور كلها، وأن أبواب الخير لا تُغلق بانقضاء موسم الطاعة، بل تبقى مفتوحةً لمن أخلص النية، وثبت على العبادة، وسار على درب الاستقامة
الحمد لله العليِّ الأعلى، خلق فسوى، وقدر فهدى، وكل شيء عنده بأجَل مسمًّى، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسبغ من النِّعم وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
سبحان من سبَّحت له السماوات وأملاكها، سبحان من سبحت له النجوم وأفلاكها.
سبحان من سبحت له الأرض وسُكانها، سبحان من سبحت له البحار وحيتانها.
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أما بعد:
فيا عباد الله، جاء رمضان ومضى، وأتى العيد وانقضى، وهذه سُنة الله في خلقه، لكل شيء إقبالٌ وإدبار، وبداية ونهاية، وحياة وموت.
عباد الله: لقد انقضت أيام رمضان سريعًا، كأنها ساعة من نهار، وتلك سُنة الله تعالى في الشهور والدهور، وهكذا تنقضي الأعمار، وهل الأعمار إلا أيام؟ فإن كان هذا هو حال الأعمار، أفلا نعتبر بما طوَتِ الأيام من سجلات الماضين، وما أذهبت المنايا من أمانيِّ المسرفين؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
إخواني: ألسنا في كل يوم نشيِّع غاديًا؟ فمنهم من تخطفته المنايا وهو نائم، ومنهم من توفَّته الملائكة وهو في الطريق سائر، ومنهم من تخطفه الموت وهو مكبٌّ على عمله، تخطفهم الموت دون أن يُشعرهم، وعاجَلهم قبل أن يُنذرهم، وحقَّ فيهم قول الحق: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
كم من صديق حميم، وكم من حبيب كريم، وكم من قريب عزيز أصبح سليمًا في بدنه، معافًى في صحته، ثم أمسى مجندلًا بين أطباق الثرى، قد حِيل بينه وبين ما يشتهي من لُقيا الأصحاب والأحباب، والأولاد والأعمال! {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54].
اجتهد – أيها المسلم – أن تكون في يومك خيرًا من أمسِك، وأن تكون في غدِك خيرًا من يومك، فمن جاهد نفسه على الطاعات، وجاهد نفسه على البعد عن المحرمات، أعانه الله، وهُدِيَ إلى صراط مستقيم؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
فاليوم السباقُ، وغدًا جوائز السابقين.
والخسارة التي لا يعوِّضها شيء، والكسر الذي لا ينجبر، والشقاوة التي لا سعادة معها: فساد الأعمال بعد صلاحها، والانتكاس بعد الاستقامة، فالشيطان يرصد للإنسان، ويقعد له بكل طريق خيرٍ ليُبعده عن الله، ويصده بها، وليبطل أعماله الصالحة بما يُزيِّن له من الشبهات والبدع والشهوات.
قال الله تعالى في عداوة الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17].
ولكن أبواب الخير كثيرة، وطرق الفضائل والمغفرة واسعة، ورحمة الله محيطة تامة، ولن يهلِك على الله إلا هالكٌ لا خير فيه.
فالعبادات والفضائل في كل شهر، بل في كل يوم، والرب تعالى يشكر على القليل، ويُثيب الثواب الجزيل؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
عباد الله: كونوا ربَّانيِّين، ولا تكونوا رمضانيين، فإن الأيام تنقضي وخالقها باقٍ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].
أيها المؤمنون، رمضان ليس شهرًا يُطوى، بل مدرسة إيمانية يُتخرج فيها بامتياز، من تخرج منها بإخلاص، استقام قلبه، وسمَت روحه، وطابت أعماله، وارتفعت هِمَّته.
فلماذا لا نجعل حياتنا كلها على نهج رمضان؛ نقاءً في السريرة، وصدقًا في العبادة، وإحسانًا في المعاملة، وهجرًا لكل ما يُغضب الله سبحانه وتعالى؟
لا تدع مشاغل الحياة لتُنسيَك لذة القرب من رب العالمين، ولا تجعل العبادة موسمًا ينقضي، بل سلوكًا دائمًا، وصِلةً لا تنقطع، فهي عبادة لا عادة، وقربة لا عادة متكررة، وشرف عظيم لمن واظب عليها.
لا تترك كثرة الصلاة، ولا تهجر تلاوة القرآن الكريم، فهما زاد القلب، ودواء الروح، وسُلَّم النجاة، وباب الطمأنينة.
واترك عنك كلَّ شر، وتُبْ إلى الله توبةً نصوحًا، واثبت على طاعته، فمن أحبه الله ثبَّته، ومن صدق في طريقه، بلَّغه مراده.
وإن من علامات القبول أن تستمر في الطاعة بعد رمضان، فأكْثِرْ من صيام التطوع، فهو برهانُ صدقك في السير إلى الله؛ صُم أيام الاثنين والخميس، وأيام البيض من كل شهر، وستًّا من شوال؛ ففيها أجر عظيم، ومغفرة ورحمة، ورِفعة في الدرجات.
رمضان يعلِّمنا أن الطاعة ميسورة، وأن الخير باقٍ فينا، فما علينا إلا صدق العزيمة، وحسن التوكل، واستحضار مراقبة الله سبحانه وتعالى في كل حين.
فيا من ذاق حلاوة القرب في رمضان، اجعل رمضان نهجًا لحياتك، لا محطةً عابرةً، وسُلَّمًا لآخرتك، لا مجرد ثلاثين يومًا تمضي، فلا تهدم – أخي الموفَّق – بنيانك؛ بنيانَ الإيمان، بنيان التقوى الذي أسسته على الإخلاص، وبنيته في رمضان، بالصيام والقيام، والقرآن والذكر، والدعاء والبر والصدقات، فلا تهدمه بعد أن ارتقى وارتفع، وإن حصل لك الفتور بعد تلك المحطة الرمضانية المباركة، فالأمر طبيعي، والراحة بعد الجِد طبيعية، ولكن لا تعُد إلى حالة الصفر، حافظ ولو على قليل دائم حتى يظل بنيانك في ارتفاع، وكن دائمًا متصلًا بالخير الذي بنيتَه في رمضان طوال العام.
واجعل – أخي المسلم – من نسمات رمضان المشرقة مفتاحَ خيرٍ لسائر العام، واستقم على طاعة ربك، وداوم ولو على القليل من العمل الصالح، واسأله الثبات حتى الممات.
من استقام لله استقامت له الحياة، واطمأنَّت نفسه، وارتاح ضميره، وسعِد في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].
فيا عباد الله، لقد انقضى رمضان، فطوبى لمن خرج منه مغفور الذنوب، مكتوب الأجر، موصول القرب، وويلٌ لمن كان رمضانه عادةً لا عبادةً، وانشغل بنهايته عن الاستمرار في طاعته، أفلا نتساءل: كيف نحافظ على الطاعة بعد رمضان؟ وكيف لا نكون ممن عبدوا الله شهرًا، ثم هجروا الطاعة دهرًا؟!
في رمضان صمنا الشهر كاملًا، وذابت نفوسنا بين آيات القرآن ومناجاة الرحمن، منا من ختم كتاب الله مرةً، ومنا من جاهد فختمه مرارًا، ومنا من وقف في محراب الليل، لم يفوِّت ركعةً من تراويح أو قيام، حتى ختم الشهر، وختم معه مشهدًا من أعظم مشاهد الإقبال.
وهذا ليس فخرًا نرويه، بل مرآةً لقدراتنا حين تتجه بوصلتنا للسماء؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقد عزمنا، فرأينا من أنفسنا ما كنا نحسَبه بعيدًا.
رمضان كشف لنا أن داخل كلنا طاقةً إيمانيةً هائلةً، وأن القرب من الله ليس بعيدًا، لكنه يحتاج إلى نية صادقة، وعزيمة لا تنثني، فما بعد رمضان هو الامتحان: هل نُثبت أن ما عِشناه كان بدايةً لا نهايةً، وأن أرواحنا لا تعود إلى التيه بعد أن ذاقت حلاوة القرب؟
إن العبد المؤمن يعلم أن رب رمضان هو رب الشهور كلها، وأن أبواب الخير لا تُغلق بانقضاء موسم الطاعة، بل تبقى مفتوحةً لمن أخلص النية، وثبت على العبادة، وسار على درب الاستقامة، فلنحذر أن تكون عباداتنا موسميةً، ولنحرص على أن يكون رمضان نقطةَ انطلاقٍ، لا محطة توقف وانفصال.
أيها المسلمون: إن كنا فقدنا رمضان في صيام نهاره، وقيام ليله، وملازمة القرآن والذكر والدعاء، وأداء الحقوق والواجبات، والإحسان إلى الناس؛ فإننا تعلمنا من رمضان أننا قادرون على أداء هذه العبادات، مهما كثرت مشاغلنا، وعظُمت مسؤولياتنا، وحقُّ الله تعالى علينا هو أعظم حقٍّ يجب أداؤه؛ فهو خالقنا ورازقنا، وآمرنا وناهينا، وهو الذي يجزينا بأعمالنا، ونحن عبيده لا ننفك عن عبوديته في أي حال، وقد شرع لنا صيام النفل، وقيام الليل، وأكَّد علينا أن نُوتِرَ قبل أن ننام، إلا من كان يقوم آخر الليل وذلك أفضل؛ وأمرنا بقراءة القرآن وتدبره والعمل به: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وكذلك – يا عباد الله – يجب علينا أن نحافظ على الأخلاق الحميدة التي اكتسبناها خلال شهر رمضان، يجب علينا أن نكون صادقين ومحبين، ومتسامحين ومتعاونين مع الآخرين في كل الأوقات، لا في شهر رمضان فحسب.
كما أمرنا سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الخلق، من بعُد عنا، ومن قرُب منا، وحقوق القريبين آكَد علينا وأعظم في شريعة ربنا عز وجل؛ كالوالدين والأرحام والجيران.
علينا أن نستمر في العمل الصالح، وخدمة المجتمع بكل ما نستطيع، يمكننا أن نتطوع في الأعمال الخيرية، ونساعد الفقراء والمحتاجين، ونكون عونًا للجميع في كل الأوقات، لا في شهر رمضان فحسب.
ومما شرع الله تعالى لنا عقب رمضان صيامُ ستة أيام من شوال؛ كما جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر»؛ (رواه مسلم)، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام الستة الأيام بشهرين، فذلك صيام السنة»، وفي رواية: «من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة»؛ {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]؛ (رواه أحمد وابن ماجه).
لا تحرموا أنفسكم الخير، والتزود منه؛ فإنكم بحاجة للأعمال الصالحة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
______________________________________________
الكاتب: عبدالوهاب محمد المعبأ
Source link