هدايات سورة هود – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

إن من سور القرآن الكريم المُحبَّبة إلى النفوس، لسهولة ألفاظها، وبلاغة عباراتها، وقوة تأثيراتها، سورةَ هود، وكأن الله سبحانه وتعالى جعلها كالبوابة لسورة يوسف التي بعدها

إن من سور القرآن الكريم المُحبَّبة إلى النفوس، لسهولة ألفاظها، وبلاغة عباراتها، وقوة تأثيراتها، سورةَ هود، وكأن الله سبحانه وتعالى جعلها كالبوابة لسورة يوسف التي بعدها، فصاغ الله تعالى قصص الأنبياء فيها صياغةً مُؤثِّرة في كل قصة منها، بدءًا من قصة نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، وختامًا بشعيب، ثم لمحة عن موسى وفرعون.

 

ثم تأتي بعدها سورة يوسف وقصته الكاملة، ومثل قصة يوسف لا يمكن تجزئتها ولا اختزالها، فهي كلٌّ متكامل، وجزء واحد لا يتجزأ، ولنا مع سورة هود عدة وقفات:

أولًا: في أول سورة هود يأتي قول الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].

 

هذا التحدي جاء في القرآن الكريم مرة (من مثله)؛ كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

 

وجاء مرة أخرى (مثله)؛ كما في سورة يونس: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].

 

أما هنا في سورة هود، فقد جاء التحدي بعشر سور مثله، وسنشير إلى أمرٍ غيرِ أمر التدرج في التحدي، فإن شأن هذه الآية شأنٌ مختلف، نحن استمعنا إلى قوله تعالى: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13]، هذا العدد عشرة، وإذا نظرنا في المصحف، وجدنا أن هذه السورة قد سبقتها عشر سور من القرآن الكريم، فهي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف، وهذا ما يُسمَّى الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وهو عالم آخر غير عالم الإعجاز البياني، والإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

 

ومن أمثلة ذلك أن الله تعالى ذكر الدنيا مائة وخمس عشرة مرة في القرآن، ومثلها ذكر الآخرة، وكذلك ذكر الملائكة ثمانيَ وثمانين مرةً، وكذلك ذكر الشياطين، وذكر إبليس إحدى عشرة مرة، وكذلك ذكر الاستعاذة منه.

 

وعالم الإعجاز العددي على رغم عدم قبول بعض أهل العلم له، فإن فيه شيئًا من جماليات القرآن التي تُحبِّب الإنسان في كتاب الله، ومعرفة أسراره، وهو أمر لا حرج فيه ما لم يكن مصدرًا لاستنباط حكم شرعي.

 

ثانيًا: يقول الله تعالى في الآية التي تليها: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14].

 

{لم يستجيبوا لكم} مع أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، والمعنى من هذه الآية أن مغالطات الكفار والمنافقين ستظل حول كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آخرهم هؤلاء الذين يسمُّون أنفسهم قرآنيين، وهم في الحقيقة نكرانيون، يعتمدون تفسيراتهم الخاصة للقرآن الكريم دون الرجوع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إلى لغة العرب، ولا إلى ما ذكره أهل العلم في تفسير الآيات، فهم – مثلًا – يفسرون قطع يد السارق في القرآن بأنه التأديب والمنع من السرقة، وينكرون حد قطع يد السارق، وغيره من الأمثلة، فقصدهم من هذا إلغاء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبث في تفسير القرآن الكريم على وَفْقِ أهوائهم، وهم يعلمون أو لا يعلمون أنهم قد فتحوا لأنفسهم بابًا إلى الكفر.

 

ثالثًا: في بعض آيات السورة تسليط على طريقة خطاب الكفار لأنبيائهم؛ فقد قال قوم نوح لنبيهم: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].

 

هم يحاولون أن يشككوا نوحًا في أتباعه، بأن يصفوهم بأنهم أراذل القوم، فيصرفوا نوحًا عن دعوة هؤلاء الضُّلَّال، فيثيروا الفتنة بين نوح وأتباعه.

 

ومثله قول قوم ثمود لنبيهم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].

 

وكأنهم يذكرونهم بمكانته عندهم، وأنه إن استمر بدعوتهم إلى ترك دينهم، فإنه سيفقد مكانته بينهم، فهم يهددونه بذهاب الجاه والمنزلة الرفيعة.

 

وكذلك قول قوم شعيب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].

 

يُثنون عليه بالحِلم والرُّشد والصفات الحسنة، ويبالغون في الثناء عليه، وهم يعلمون حب الإنسان للثناء والمدح، فيدفعه مدحهم وثناؤهم أن يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهي كلها أساليبُ خبيثةٌ، يتَّبعها أصحاب الضلال في إغراء أهل الحق في ترك حقهم، والتنازل عن مبادئهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

فمن الأمور المهمة التي نبَّهت عليها سورة هود؛ وهي الوقفة الرابعة:

حذرت هذه السورة من فعل قوم لوط، وهو الفاحشة الكبرى، وإذا ظهر وانتشر، فإنما هو علامة على انتكاس الفطرة، وتردِّي النفس البشرية إلى الحضيض، ولو نظرنا في القرآن الكريم، لوجدنا الإشارة إلى قوم لوط وردت في القرآن الكريم سبعًا وعشرين مرة، وليست مرة واحدة، ومعنى هذا أن هذا الفعل المشين لا ينتهي من البشرية، وعلى المؤمنين أن يكونوا على حذر منه، ومن دعاته وهيئاته ومنظماته، ومن ألوانه.

 

وإنه اليوم يشهد ظهورًا على السطح، وتبجحًا به، وفخرًا بفعله، وأصبح العالم كله بما فيه من المسلمين ومن الكافرين يخشى منهم، ومن تأثيرهم في المجتمعات، لا يقتصر خطرهم على مجتمع دون مجتمع، وهناك نفرة منهم وحرب لهم ومحاولات من أصحاب الملل والديانات على اختلافها؛ لسلامة الأسر والأجيال منهم.

 

وما ظهورهم إلا نتيجة لتوحش العلمانية، وتوغلها في النفوس والمجتمعات، فما من أصحاب عبادة يرضَون بهذه الفعلة السيئة، أو يدعون لها.

 

فليكن المؤمن على حذر منهم، ويحذر وينصح ويوجه من تحت يده إلى خطر هؤلاء على الدين والأخلاق، ولا يتغافل ولا يتعامى عن الحذر منهم، وكأن الأمر لا يعنيه، أو لا يعلم عنه، فإن شياطين العالم يؤزُّ بعضهم بعضًا.

 

الوقفة الخامسة: وهي في موقف لوط عليه السلام حين قال: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78].

 

لأجل كرامة الضيف، وألَّا يُمَسَّ بسوء، يقبل النبي الكريم بمصاهرة أمثال هؤلاء، وأن يزوِّج بناته العفيفات الكريمات لقوم عُرفوا بالفحش والرذيلة، فأي مكانة عظيمة للضيف في نفوس الأنبياء وفي نفوس الكرام؟ وقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه»، فتبقى كرامة الضيف محفوظة، ومن المعيب أن ينال الضيف بكلمة تسوؤه، أو بفعل يجرح كرامته وشعوره.

 

الوقفة السادسة: ولعلنا نختم بها؛ وهي قول الله تعالى في شأن البشارة لإبراهيم وزوجته سارة بابنهم إسحاقَ: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 72، 73].

 

البركة: هذا الأمر الذي نبحث عنه جميعًا، نريده، ولكننا في الأغلب لا نفعل أسبابه.

 

والبركة التي حلَّت في إبراهيم وزوجته سارةَ أنْ جَعَلَ الله الأنبياء من ذريتهم؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27].

 

وأيسر أبواب البركة هو السلام، لكننا إذا سلَّمنا، سلمنا سلامًا مختصرًا: “السلام عليكم”، وقد انتهى السلام إلى: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، فكم مرة سلمنا سلامًا كاملًا، نشيع لفظ البركة حتى تتعوده ألسنتنا، وتألفه أسماعنا؟

 

وإن أعظم ما يُذهب البركة هو الظلم وأكل المال الحرام، والتهاون في حقوق المسلمين؛ الضعفاء منهم والأقوياء، والتقصير في أداء الحقوق والواجبات المطلوبة منا.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا مباركين أينما كنا، وأن يرزقنا البركة في أنفسنا وذرياتنا وأموالنا، وجميع أعمالنا؛ إنه على كل شيء قدير.

_____________________________________________________
الكاتب: ساير بن هليل المسباح


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

أهمية الوفاء بالعهد في حياة المسلم – عبد الله بن محمد الطيار

إذا قُلْت في شيء نعـم فأتمه.. .. .. فإن نعم دين على الحرِّ واجبُ وإلا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *