“وخشية الله تعالى في السر إنما تصدر عن قوة إيمان، ومجاهدة للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورعَ في الخلوة”.
من عرَف الله تعالى حقَّ المعرفة، راقبه في السر والعلانية، وخافه بالغيب والشهادة، فلا يَعصي له أمرًا، ولا يرتكب له نهيًا، فإن زلَّت به القدم، بادر بالتوبة والاستغفار، يخاف ذنبه، ويرجو عفو ربه سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، ومن الدعاء النبوي المأثور: «اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة»؛ (رواه النسائي).
وهذا يقتضي الحذر من معصية السر؛ لأن الله تعالى مُطَّلع على العبد في خلوته؛ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، فلا يستطيع الغياب عن عِلمه سبحانه وإحاطته به، ومن وقع في معاصي الخلوات فلضعفِ إيمانه، لأنه غفل عن نظر الله تعالى إليه، وعلمه سبحانه به، وفيه تشبُّه بالمنافقين؛ فإنهم يُظهرون خلاف ما يُبطنون: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]؛ قال ابن كثير: “هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس، لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله تعالى بها؛ لأنه مُطَّلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم”.
ومن السبعة الذين يُظلُّهم الله تعالى يوم القيامة؛ كما في الحديث الصحيح: «ورجلٌ دَعَتْهُ امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله»، خلا بها وهي تريده، ودعته للوقوع عليها، وهي جميلة مرغوبة، ومنصبها يُغريه فيها، ويبدِّد الخوف من ذويها، فما ثَم إلا مخافة الله تعالى بالسر، وخشيته بالغيب، فحالت بينه وبين معصية السر؛ قال ابن رجب: “وخشية الله تعالى في السر إنما تصدر عن قوة إيمان، ومجاهدة للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورعَ في الخلوة”.
إن الذي يمنع العبد من معصية السر مخافةُ الله تعالى، ومن بلغ تلك المنزلة حقَّق الإحسان؛ لأنه يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله تعالى يراه؛ قال إبراهيم بن سفيان: “إذا سكن الخوفُ القلوبَ، أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها”.
وكان السلف يحتسبون على الناس في ذلك، ويذكِّرونهم بالله تعالى في خلواتهم؛ قال رجل لوهيب بن الورد: “عِظني، قال: اتقِ أن يكون الله تعالى أهون الناظرين إليك”، وسُئل الجنيد: بِمَ يُستعان على غض البصر؟ قال: “بعلمك أن نظر الله تعالى إليك أسبقُ من نظرك إلى ما تنظره”، وقال أبو سليمان الداراني: “إن الخاسر من أبدى للناس صالحَ عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد”، وكان بعضهم يدعو بذلك، لعسر التخلص من معصية السر، ويخشى على من أدمن المعاصي في الخلوات أن يستهين بها، فيستحلها، أو يدعو غيره إليها، فينتقل من الإسرار إلى المجاهرة، ومن قَصْرِ منكره على نفسه إلى تعديته لغيره، كما يُخشى عليه من الفضيحة؛ فإن الله تعالى فضح المنافقين عند المؤمنين بتصرفاتهم وفلتات ألسنتهم، رغم أنهم كانوا حريصين على كتم ما في قلوبهم؛ فقال سبحانه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]، قال عثمان بن عفان: “لو أن عبدًا دخل بيتًا في جوف بيتٍ، فأدمن هناك عملًا، أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل يعمل إلا كساه الله تعالى رداءَ عمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ”، نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يكفينا شر أهوائنا وأدوائنا، وأن يرزقنا الاستقامة في سرنا وعلانيتنا، إنه سميع مجيب.
أيها المسلمون: في زمننا هذا تيسَّرت سبل معاصي السر كما لم تتيسر في أزمنة مضت، فالأجهزة الذكية التي لا يكاد أحد أن يستغني عنها، تعِج بمعاصي الأسماع والأبصار، ومن أدمنها نزلت أدرانها على قلبه فأفسدته، وبهذه الأجهزة يستطيع الرجل أن يتواصل مع من لا تحل له من النساء، وتستطيع المرأة أن تخلوَ بالرجل الأجنبي عنها، ويتحدثان ويتسامران الليل كله، ويقعان في محظورات لا يعلمها إلا الله تعالى، وهو يُخفي ذلك عن أقرب الناس إليه، ولكن الله تعالى يعلمه، وفي أكثر البيوت شاشات تنقل لها ما يُبث في كافة أرجاء الأرض، من طيب وخبيث، والخبيث فيها أكثر من الطيب، بل الطيب منها قليل جدًّا، ويصِلهم بلا مال ولا اشتراك ولا مؤونة، وما كان منها بمالٍ فبشيءٍ زهيد يقدر عليه الفقراء، فضلًا عن المُوسرين، وفيها من أنواع الترفيه والتشويق ما يجذب المشاهدين إليها، وما يجعلهم يُدمنون عليها، ولا يستطيعون الفِكاك منها، إلا من عصمه الله تعالى، لقد ألْغَت هذه الأجهزة الحدود، وكسرت كل القيود، فما ثَم إلا خوف الله تعالى ومراقبته في السر، وخشيته بالغيب.
ومن أسلم نفسه لهذه الأجهزة، فقد نقلها من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال، وفتح عليها أبوابًا من الشر لا يعلمها إلا الله تعالى، ناهيكم عن تيسر الوقوع في الفواحش، والاجتماع عليها، والدعوة إليها، والمجاهرة بها، فلا يبقى للعبد رادعٌ وزاجر إلا خشية الله تعالى، وذلك المقام العليُّ، من حقَّقه حقق الإحسان، وجاوز عظيمَ الابتلاء بحسن اختيار، وهذا الزمن بكل ما فيه من انفتاح لأبواب الشر، وتيسير للفواحش، حقيق بقول الله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، وحقيق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «… فإن من ورائكم أيامًا الصبرُ فيهن مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم»؛ [ (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبان) ].
فهنيئًا لمن قبض على دينه، وصان سمعه وبصره، ولسانه وفَرْجَه عن الحرام، وحفِظ نفسه وأهله وولده مما يوجِب الآثام، هنيئًا له رضا الرحمن والفوز بالجنان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واخشَوا نقمته وراقبوه، واجتنبوا نهيه واحذروه، واعلموا أنكم ملاقوه؛ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 18، 19]، فاللهَ الله في قلوبكم، لا تفسدوها بذنوب الخلوات، والله الله في إيمانكم، زكُّوه بصالح الأعمال، وجاهدوا وساوس الشيطان، وأكثروا التوبة والاستغفار، وإياكم إياكم واليأسَ والقنوط والإحباط، فمن جاهد نفسه هُدِيَ إلى توبة نصوح؛ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
اللهم ارفع عن إخوتنا في سوريا وتركيا مصابهم وكربهم، اللهم اغفر لموتاهم واشفِ مرضاهم، اللهم استر عاريَهم، وأطعم جائعهم، اللهم ارحمهم فأنت الرحمن الرحيم، اللهم عافِهم، واعفُ عنهم، اللهم تولَّهم، اللهم أصلح شأنهم، وردهم إليك ردًّا جميلًا وجميع المسلمين، اللهم وفِّق المسلمين للوقوف معهم، واجزِ خيرًا من تبرع منهم ودعا لهم، اللهم آمِنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده بتوفيقك، وأيِّدهما بتأييدك يا رب العالمين، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه، ورُدَّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز، اللهم إنا نعوذ بك من الوباء والغلاء، والربا والزنا، ونعوذ بك من الزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
________________________________________
الكاتب: د. محمد بن مجدوع الشهري
Source link