منذ حوالي ساعة
هذه جملة من المسائل والتنبيهات المهمة ، يتحتم على طالب العلم أن يأخذها بعين الاعتبار ويضعها في حيز التنفيذ إذا أراد أن يبحث مسألة فقهية، نسأل الله أن ينفع بها قارءها وكاتبها .
هذه جملة من المسائل والتنبيهات المهمة ، يتحتم على طالب العلم أن يأخذها بعين الاعتبار ويضعها في حيز التنفيذ إذا أراد أن يبحث مسألة فقهية، نسأل الله أن ينفع بها قارءها وكاتبها .
أولًا :- أن تكون المسألة- محل البحث- مما ينبني عليها عمل:
من الحكمة التي تميز طالب العلم عن غيره: نشر العلم الذي يترتب عليه ثمرةٌ وعملٌ، وتدعو إليه الضرورة، وعدم الانشغال بالمواضيع التي قد فُرِغ منها و صار التكرار لها مملا ، او المواضيع التي لا فائدة عملية من ورائها، بل ربما كان ضررها أكبر مِن نفعها، لما يترتب عليه من المراء والجدل والخصام، وتشويش الأذهان، وقسوة القلوب.
وعلى هذا تربى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يشتغلوا بتفريع المسائل وتوليدها؛ بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم الله به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما للتابعي الجليل عكرمة: “انْطَلِقْ فَأَفْتِ النَّاسَ، فَمَنْ سَأَلَكَ عمَّا يَعْنِيهِ فَأَفْتِهِ، ومَنْ سَأَلَكَ عمَّا لا يَعْنِيهِ فلا تُفْتِهِ، فَإِنَّكَ تَطْرَحُ عن نفسك ثُلُثَيْ مَؤُونَةِ النَّاس”([1]).
ثانيا: القراءة عن المراجع قبل قراءتها:
كتب الفقه في المذاهب تختلف منزلتها باختلاف الغرض منها اختلافًا بينًا؛ إذ منها: المطولات والمتون والمختصرات والشروح والحواشي، كما تختلف طريقتها في ترتيب الكتب والأبواب داخلها من مذهب إلى آخر، ومن زمن لآخر، كما أن لبعضها مصطلحات خاصة، وما لم يدرك الباحث هذا الأمر بصورة جيدة فقد يضل الطريق في الوصول إلى المعلومة، وبالتالي لا ينصح الباحث المبتدئ بالرجوع إلى أمهات المصادر إلا بالقراءة عنها قبل قرائتها.
وقد اهتمت بعض المؤلفات في (مناهج البحث الفقهي ومصادره) بالتعريف بالمؤلفات في كل مذهب ومصطلحاته، وهناك مؤلفات خاصة في مصطلحات المذاهب الواحد.
ثالثا: الرجوع الى كتب الفقه المقارن التي اعتنت بذكر الأدلة والترجيح بينها:
لكي يكون طالب العلم باذلاً للجهد والوسع يتوجب عليه الوقوف على أقوال العلماء في المسألة محل البحث، أما إن اكتفى برأية أو بالنظر المتعجل فمن السهل عليه أن يدعي الإجماع في غير مظانه، ويقطع فيما سبيله الظن، ويشغب على العلماء وينتقص منهم ويزري بهم ، دون أن يعرف مستند أقوالهم، ومثل هذا لا يُعَدُّ من أهل الاجتهاد، “فمَنْ لم يعرف إلَّا قول عالِمٍ واحِدٍ وحُجَّتهُ دُونَ قول العالمِ الآخَرِ وحُجَّتِهِ فَإِنَّهُ مِن العَوَامِّ المُقَلِّدِينَ لا مِن العلماء الذين يُرَجِّحُون ويُزَيِّفُونَ”([2]). ومعنى يُزَيِّفُونَ أي يفندون أقوال المخالفين بإنصاف وموضوعية.
بقي أن أشير إلى أهم كتب الفقه المقارن النافعة التي اعتنت بذكر الخلاف الحاصل بين العلماء، وذكر الأدلة ومذاهب الصحابة والتابعين، واستيعابها للأقوال مع الترجيح بينها غالبا:
المغني لابن قدامة المقدسي ، المجموع شرح المهذب لأبي زكريا النووي( وصل فيه إلى كتاب الربا ثم أكمله غيره) ، المحلى بالآثار لأبي محمد ابن حزم الظاهري (ولكن ينبغي لقارئه أن يحذر من شدته على أهل العلم) ، بداية المجتهد لابن رشد، الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر ، وله أيضا: الإشراف على مذاهب العلماء، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر ، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، ومن الكتب الحديثة الموسوعة الفقهية الكويتية.
تنبيه : يتعين على الباحث تحري الصحة في النقل والأمانة في عزو الأقوال إلى أصحابها، وذلك بالرجوع في معرفة رأي كل مذهب إلى مظانه ومصادره المعتمدة.
رابعا: الرجوع إلى كتب شروح الحديث، مع عدم الاكتفاء بها:
تُعَدُّ كتب شروح الحديث مِن المصادر التي يُرجع إليها عند دراسة المسائل الفقهية؛ ففيها بيان غريب الألفاظ وشيء من فقه الحديث ورواياته المختلفة، وقد خلّف لنا أئمة الإسلام مكتبة ضخمة من هذه الشروح، فلا غنى لطالب العلم عنها، لكن على طالب العلم ألا يكتفي بها ولا يعتمد عليها بصورة كلية، فهي فقط مُتَمِّمة ومُسَاعِدة؛ لأنها:
– لا تهتم بجمع الأدلة الواردة في المسألة أو الموضوع الواحد، وإنما تهتم بالحديث المشروح مع بعض إضافات قليلة أحيانًا.
– لا تهتم بكل النقاط الفرعية المتعلقة بالمسألة واستيعابها بشكل متكامل؛ إما طلبًا للاختصار أو لعدم مناسبة إيرادها عند شرح الحديث.
– لا يمتلك المتفقه على هذه الطريقة مَلَكَة فقهية قوية؛ لأن بعض الشروح يغلب عليها الفهم الجزئي والتجزيئي للنصوص، لكن بالرجوع إلى كتب الفقه، يتمكن العالم والطالب من جمع الأدلة في المسألة، ومن ثم المقارنة والترجيح بينها، ولهذا يرى الشيخ محمـد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ) أنَّ “الذين أخذوا بالحديث دون أنْ يَرجعوا إلى ما كتبه العلماء في الأحكام الشرعية، عندهم شطحات كثيرة، وإن كانوا أقوياء في الحديث وفي فهمه؛ لأنهم بعيدون عما يتكلم به الفقهاء. فتجد عندهم من المسائل الغريبة ما تكاد تجزم بأنها مخالفة للإجماع أو يغلب على ظنك أنها مخالفة له. لهذا ينبغي للإنسان أَنْ يَربط فقهه بما كتبه الفقهاء”([3]).
خامسا: احترام التخصص ، فكل علم يؤخذ من أهله :
أهل كلِّ علمٍ مقدَّمون على غيرهم فيه، بل لا يُلتفت إلى سواهم؛ فهم الذين جمعوا مسائله وضبطوا أصوله وذلَّلوا صعابه، ولن يفقه طالب العلم كائنًا ما كان تمام الفقه حتى يأخذ كلَّ فَنٍّ عن أهله، ويتلقاه من مظانه، فإنه – كما يقول الإمام الشوكاني-
” لو ذَهَبَ يأخذ مثلاً الحديث عن أهله ثم يريد أنْ يَأخذ ما يتعلق بتفسيره في اللغة عنهم – كان مخطئًا في أخذ المدلول اللغوي عنهم، وهكذا أخْذ المعنى الإعرابي عنهم فإنه خطأ، بل يأخذ الحديث عن أئمته بعد أنْ يَكشف عن سنده وحال رواته، ثم إذا احتاج إلى معرفة ما يتعلق بذلك الحديث من الغريب رجع إلى الكتب المدونة في غريب الحديث،… وإذا أراد الاطلاع على ما في ذلك الحديث مِن دقائق العربية وأسرارها رجع إلى علم المعاني والبيان، وإذا أراد أنْ يَسلك طريقة الجمع والترجيح بينه وبين غيره رجع إلى علم أصول الفقه.
فالعالم إذا صنع هذا ظفر بالحق من أبوابه، ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه. وأما إذا أخذ العلم عن غير أهله ورجح ما يجده مِن الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا مِن أهلها، وأعرض عن كلام أهلها؛ فإنه يخبط ويخلط، ويأتي مِن الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان، وهو حقيق بذلك”([4]).
سادسا: الحذر من التوسع في دعوى الإجماع أو النسخ:
متى ثبت الإجماع فهو حجة شرعية، لكن هناك من يدعي الإجماع في مسائل؛ والخلاف فيها مشهور، ومنهم من ينقل الإجماع ويريد به إجماع أهل مذهبه، أو إجماع الأئمة الأربعة، أو إجماع أهل بلدة خاصة.
فلابد من امعان النظر والتاكد من صحة الاجماع في المسألة محل البحث، ولا يتساهل الباحث فيزعم ان قول اكثر اهل العلم- او قول جمهورهم -اجماع ، في حين أن هناك من خالف من اهل العلم، لذا قال ابن حزم: ودعوى الإجماع بغير يقين، كذب على الأُمَّةِ كلها… نعوذ بالله من ذلك([5]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا تَعْبَأُ بِمَا يُفْرَضُ مِن المسائل ويُدَّعى الصحة فيها بمجرد التهويل، أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك... وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد: “مَن ادَّعَى الإِجْمَاعَ فهو كاذِبٌ”، يعني بذلك من يدعون الإجماع مِنْ قِلَّةِ معرفتهم بأقاويل العلماء([6]).
نفس الشيء ينطبق على دعوى النسخ، فلابد من التحري والتدقيق ، فالنسخ لا يثبت بالاجتهاد، ولا بمجرد التعارض الظاهر بين الأدلة.
سابعا: عدم التسرع في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي (المتوفى: 795هـ) : كان أئمة السلف يتوقون الكلام في الحلال و الحرام تورعًا؛ لأنّ المتكلم فيه مخبر عن الله بأمره ونهيه، مبلغ عنه شرعه ودينه.
وكان ابن سيرين إذا سُئِلَ عن شيء من الحلال والحرام تَغَيَّر لَوْنُهُ وتَبَدَّلَ، حتى كَأَنَّهُ ليس بالذي كان. وكان الإمام أحمد شديد التورع في إطلاق لفظ الحرام والحلال أو دعوى النسخ، ونحو ذلك مما يجسر عليه غيره كثيرًا، وأكثر أجوبته: أرجو وأخشى، أو أحب إلي، ونحو ذلك.
وكان هو ومالك وغيرهما يقولون كثيرًا: لا ندري.
وكان أحمد يقول ذلك في مسألة يذكر للسلف فيها أقوالاً عديدة، ويريد بقوله لا أدري أي الراجح المفتى به من ذلك ([7]).
لكن إذا كان الحكم قد دلَّ عليه دليل صَحيح صريح، ولم يَصرِفه عنه صارف، أو ثبَت الحكم بالإجماع المنقول نقلاً صحيحًا؛ فلا مانع حينئذ من إطلاق لفظ التحريم، أو الإباحة، أو نحوهما.
نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجمع كلمة المسلمين، اللهم آمين.
([2]) مجموع فتاوى ابن تيمية (35/ 232).
([3]) العلم، للشيخ محمـد بن صالح العثيمين (ص: 84)، مجموع فتاواه (26 / 177(.
([4]) أَدَبُ الطَّلَبِ ومُنْتَهَى الأَرَبِ (ص: 76).
([5]) المحلى بالآثار (1/ 203(.
([7]) مجموع رسائل ابن رجب (1/ 24)
Source link