من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): قال سفيان بن عيينة: إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.
فهذه فوائد ووقفات وهدايات وتأملات في الاستعاذة قبل التلاوة:
1- جمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة عند القراءة.
2- الاستعاذة من الأذكار المهمة والأدعية الجليلة التي يحتاج إليها العبد في يومه وليلته، أكثر من حاجته للطعام والشراب والهواء.
3- أشهر صيغة للاستعاذة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
4- هنالك أربع صيغ أخرى للاستعاذة: الأولى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
الثانية: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
الثالثة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، لكن مع زيادة: “من همزه، ونفخه، ونفثه.
الرابعة: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ منَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ وهَمزِهِ ونفخِهِ ونفثِهِ.
5- “أعوذ” أي: ألتجأ وأستجير وأحتمي وأتحصن وأتحرز.
6- معنى الاستعاذة: الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجانبه من كل ذي شر.
7- الاستعاذة: التجاءٌ إلى اللهِ القوي، واتقاءٌ لشرور الشيطانِ الغويّ.
8- أركانُ الاستعاذة أربعة:
الأول: مستعيذ: وهو مَن صدرت منه الاستعاذة، والتجأ إلى الله عز وجل.
الثاني: مُستعاذ منه: وهو الشيطان.
الثالث: مستعاذ به: وهو الله جل جلاله.
الرابع: صيغة الاستعاذة: كأن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
9- المسلم باستعاذته بالله من الشيطان الرجيم، قبل قراءة القرآن الكريم، يعترف بعجزه وضعفه أمام حيل شياطين الإنس والجن ووساوسهم، وأنه لا يقوى على مقاومتهم وحده، فيستعين بالله من أجل ذلك تسليمًا بقدرته سُبحانه.
10- العبد باستعاذته بربه يعترف بأنه ضعيف وأن الله هو القوي، وأنه فقير وأن الله هو الغني، وأنه ذليل وأن الله هو العزيز.
11- “أعوذ” بالمضارع دون الماضي؛ لأن معنى الاستعاذة لا يتعلق إلا بالمستقبل؛ لأنها كالدعاء.
12- الاسم الكريم “الله” ذكره في الاستعاذة في غاية المناسبة، لأن هذا الاسم يتضمن أو يستلزم سائر الأسماء الحسنى، وهي تعود إليه لفظاً ومعنى.
كما أنه أيضا يستلزم إثبات جميع صفات الكمال، لأن الإله لا بد أن يكون كاملاً من كل وجه، ولا يُتصور إله وهو ناقص وعاجز أو فقير أو جاهل، فالاسم الجامع لجميع الصفات الكمالية إنما هو الله فكأن العبد قال أعوذ بالقادر العالم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات من الشيطان الرجيم
13- الاستعاذة كالتخلية، والبسملة كالتحلية.
14- الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فهي عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها هو القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره.
15- الحكمة في الاستعاذة عند القراءة الاستئذان وقرع الباب، لأن من أتى باب ملك من الملوك لا يدخل إلا بإذنه، كذلك من أراد قراءة القرآن، إنما يريد الدخول في المناجاة مع الحبيب، فيحتاج إلى طهارة اللسان، لأنه قد تنجس بفضول الكلام والبهتان، فيطهِّره بالتعوذ.
16- العبدُ وهو مقبلٌ على تلاوة القرآن بأمس الحاجة لأن يستعيذ بالله تعالى؛ من جميع الأهواء والأكدار التي قد تعيق الانتفاع الحقيقي من هذه القراءة، وهذا لا يتحقق إلا بالالتجاء والاستنجاد بالله جل في علاه.
17- استعمالُ القرآن الكريم لفظ “الشيطان” بدلَ “إبليس” في الاستعاذة؛ لضمان شمولها له ولذريته وجنوده.
18- الشيطان عدوٌ خطير وبين للإنسان، وهو لعين ومطرود من رحمة الله، فأنسب وصف جاء في هذا المقام “الرجيم” حتى نتخيل المشهد وكأنه يُرجم مذعوراً منشغلاً بنفسه.
19- الشيطانُ يحرصُ على منعك من قراءة القرآن، فإذا استعذت منه وشرعت بالقراءة يحاول صرفك وقطع قراءتك، وهكذا إذا بقيت في القراءة يحاول التشويش عليك حتى تقرأ بلا تأمل ولا تفكر ولا تدبر ولا فهم.
20- إن الشيطان رجيم وإن الله رحمن رحيم فأحذر من الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.
21- إن من ضم إلى الاستعاذة قوله: {{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}} [الدخان: 6] إقتداء بما ورد في القرآن الكريم كأنه يقول يا من يسمع كل مسموع ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها وأنت القادر على دفعها عنى فادفعها عنى بفضلك.
22- الاستعاذة بداية حماية لا بداية قراءة فقط، كأن الله سبحانه وتعالى يقول لك: لا تفتح مصحفك إلا وقد احتميت بي، فلا علم بدون أمان، ولا فهم مع وسوسة.
23- الاستعاذة فيها درس عظيم في التوحيد، فلا ملجأ من الشيطان إلا إلى الله، ولا كافي سواه.
24- من استعاذ بلسانه وقلبه غافلٌ كمن يستغيث وهو لا يصدق أن هناك من ينقذه.
25- من تدبر الاستعاذة علم أن العدو حاضر، وإن لم يُرَ، فالشيطان لا ينام ولا يغيب، ولا يُهزم إلا حين تحتمي بالله.
26- الاستعاذة تذكير دائم بوجود معركة خفية وصراعٍ دائم مع عدو لا يكلّ، تحتاج فيها باستمرار لسلاح رباني.
27- فيها معنى استحضار الإيمان بالغيب، وثقة القلب بمن بيده كل شيء، فأنت تستعيذ ممن لا تراه، إلى من لا يُغلب.
28- الاستعاذة لحظة إصلاح قبل السير، كما تُصلح المركبة قبل السفر، تُصلح النفس قبل التلاوة، فلا تمضي في رحلتك مع القرآن وأنت مثقل بالوساوس.
Source link