الاغتراب عن القرآن – طريق الإسلام

الاغتراب عن القرآن لا يبدأ بهجره، بل يبدأ حين يصبح وردًا بلا حضور، وتلاوة بلا خشية، وعلمًا بلا مهابة، وقد صار القرآن عن البعض “رجعًا للاستشهاد” لا “نبضًا للتشكّل”

حين تتأمل السماء في هدأتها المهيبة، وتقرأ في سكونها تلك الوصية الكبرى: (كتابٌ أُنزِل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه)، تدرك أن أعظم هدية أُهديت إلى الأرض، لم تكن ثروة ولا حضارة، بل وحيٌ منزّل، ذاك النور العتيق الذي شقَّ من السماء طريقه، لا ليزيّن رفوف المكتبات، بل ليُقيم العدل في الأرض، ويُنعش الأرواح، ويجعل للإنسان سبيلاً حين تتكاثر عليه السُبُل.

و نحن في زمنٍ تضاءلت فيه المسافات وتكثفت فيه المشاريع، أصبحنا نعيش مفارقةً مذهلة: تعلو رايات البرامج القرآنية، وتغيب حرارة القرآن نفسه عن القلوب، لا تكاد تلتفت إلا وتجد مؤتمرًا عن “تمكين القيم”، أو مبادرةً تحمل اسم “القرآن”، أو برنامجًا للتربية على هدي الوحي، ومع ذلك، تسأل نفسك سرّ هذا الجفاف الباطني، وهذه القلوب التي تمضي في الإنجاز دون أن تُروى.

ولم يكن القرآن يومًا مشروعًا يُضمّ إلى غيره، ولا برنامجًا يُدمج ضمن غيره، بل كان هو المنبع والبوصلة والمصب، وكل مشروعٍ لا يجعل من القرآن مقصده، لا مجرد عنوانه، فإنه يُنذر بانفصالٍ خطير بين الشعار والجوهر، بين الهيكل والمضمون، بين ما يُقال وما يُعاش.

وإن من أخصّ ابتلاءات طلاب العلم وأهل التأثير اليوم: أن يغترب القرآن عن قلوبهم تحت لافتة الانشغال بخدمته، فيغيب صوت الآية التي كانت تهزّهم، وتتبدّد تلك اللحظة التي كانت السورة تقلبهم من حال إلى حال، ويستبدل كل ذلك بـ”عناوين عرض”، و”محتوى تقديمي”، و”شريحة افتتاحية جذابة، كيف تزرع فيهم عظمة الوحي، وأنت نفسك فقدت الدهشة الأولى؟

الاغتراب عن القرآن لا يبدأ بهجره، بل يبدأ حين يصبح وردًا بلا حضور، وتلاوة بلا خشية، وعلمًا بلا مهابة، وقد صار القرآن عن البعض “رجعًا للاستشهاد” لا “نبضًا للتشكّل”، وصار الورِد القرآني يُقرأ وكأنه مهمة في دفتر الإنجاز، لا جلسة تزكية في معراج العارفين، والمعضلة حين يتحول إلى عادة ذهنية لا أثر لها في باطن النفس، أو إلى أداة خطابية تُستخدم في التأثير لا في التزكية، وهنا، تنشأ فجوة مرعبة بين “أهل القرآن”، و”أثر القرآن”.

الإشكال أن تنشغل بتمكين الدين في الأرض، وتنسى تمكين الإيمان في القلب، والحق أن هذا النمط من الاغتراب لا يُدركه الإنسان فجأة، بل يتسلل على هيئة انشغالات مبررة، وشعارات مقبولة، حتى إذا به يجد نفسه فاترًا أمام المصحف، جافًا في دعائه، غريبًا في صلاته، باردًا عند آيات الوعد، وساكنًا عند آيات الوعيد.

والقرآن – وهو دستور المشروع الإيماني الأول – لا يرضى أن يكون بندًا على هامش المهام، ولا مرجعًا مؤقتًا عند الحاجة، بل هو أصل كل تحول، ومنطلق كل بناء، فكيف يجوز لمؤمن أن يترقى في سلّم الدعوة، وهو يتراجع في تأمل القرآن؟ كيف يستقيم حال من يهندس برامجه على قاعدة التأثير، وقد هدم في داخله أركان التلقي والخشوع والأنس بكلام الله؟

والانشغال بالمشروعات الكبرى لا يعفي من التبعة، بل يثقل الكاهل أكثر، فمن ارتقى منصة التأثير، وجب أن يكون أقرب الناس إلى المصحف، لا في التلاوة الجهرية فقط، بل في المناجاة، في الحياء، في الرهبة، في التبتل، وهذا لا يتحقق إلا حين يتخفّف العبد من ضجيج الإنجاز، ويعود إلى لحظة السجود الأولى، حيث لم يكن له من الدنيا إلا مصحفه ودمعته، ولذلك كان السلف أشد الناس خلوةً بالقرآن كلما ازدادوا تأثيرًا في الناس؛ لأنهم يعلمون أن الصوت الذي لا يُروى من النبع سيفقد عذوبته ولو صدح في أكبر جمع.

ومن لم يجعل له وردًا ثابتًا يحفظه في زحمة مشاريعه، فسيجد أن نفسه قد ذبلت، ومشاريعه قد تكلست، وخطابه – وإن كان بليغًا – فقد روح النور، وفي هذا الزمن، يُختبر صدق القلوب لا بجزالة الأثر، بل بثباتها على باب الوحي، فمن حافظ على لحظته مع المصحف، وسط الندوات والتخطيط والتأثير، فقد ثبّت قدمه في الصراط، ومن انشغل بكل شيء إلا القرآن، خيف عليه أن يكون ممن: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح حديث المستشار مؤتمن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  «الْمُسْتَشَارُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *