منذ حوالي ساعة
قال ﷺ في بيان الأصناف الثلاثة: «يُحشرُ الناسُ يوم القيامةِ ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ مُشاةٌ، وصنفٌ رُكبانٌ، وصنفٌ على وجوهِهم».
وهنا يا ابنَ آدم قدِّمْ لنفسِك فإمَّا التكريمُ والحفاوةُ وإما الذِّلةُ والمهانةُ:
وأولُ من ينشقُّ عنه القبر هو سيد الخلق محمد ﷺ وربما الأنبياءُ من بعده – ثم أبو بكرٍ وعمرُ ثم أهلُ البقيع فيُحشَرون مع الرسول ﷺ ثم أهل مكة (١) {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: ٤٤].
ويقوم الناسُ إلى أرض المحشرِ على ثلاثة أحوال:
١) الصنف الأول: وهم صنفان ظالِمٌ كافرٌ وظالِمٌ موحِّدٌ، فالكفرةُ يقومون من قبورِهم وجوهُهم زرقاءُ مغبرّةٌ يعلوها العارُ والمذلةُ فزِعون مرعوبون قد بلغ بهم القلق و العطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله، يتناجون
بينهم ويتخافتون في قصر مدة الدنيا وسرعة الآخرة فيقول بعضهم ما لبثتم إلا عشرة أيام ويقول بعضهم غير ذلك والله يعلم تخافتهم ويسمع ما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة أي أعدلهم وأقربهم إلى التقدير إن لبثتم إلا يوماً والمقصود منه الندم العظيم إذ كيف ضيّعوا الأوقات القصيرة وقطعوها ساهين لاهين معرضين عما ينفعهم مقبلين على ما يضرهم فها قد حضر الجزاء وحق الوعيد فلم يبق إلا الندم والدعاء بالويل والثبور (2).
وإنهم ليتساءلون من هول الفاجعة يقولون {مَن بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا …} ثم يردّون على أنفسِهم {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: ٥٢] لأنهم ساعتئذٍ يكونون قد عرفوا وظهرَ لهم الحقُّ الذي كانوا يُنكرون فيؤمنون حيث لا ينفعُ الإيمانُ، أو أنَّهم يسمعون ذلك الردَّ من الملائكةِ الشهودِ عليهم.
فإذا قاموا وجدوا أنفسَهم لا يستطيعون المشيَ على الأقدامِ.. ولا على الأيدي.. ولا على الأرجلِ ولا كما يفعل الحيوانُ، بل ولا يستطيعون البقاءَ في قبورِهم إن عجزوا عن المشيِ، بل يجدون أنفسَهم مدفوعين للقيامِ يمشون على وجوهِهم عُمياً لا يروْن طريقَهم، وصُمّاً لا يسمعون تحذيراً وتنبيهاً، وبُكماً ليس لهم القدرةُ على الكلامِ والعياذ بالله تعالى.
{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقا} [طه: ١٠٢].
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١)} [عبس: ٤٠: ٤١].
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: ٩٧].
أما الظالم الموحِّدُ فقد قيل إنَّ مَنْ قال لا إله إلا الله لا ينتكسُ على وجهِه وقيل بل يُحشَر مثلَهم لأنَّه عرف الحقَّ ثم أعرض عنه ففي الحديث: «مُدمنُ الخمرِ إنْ مات لقيَ الله كعابدِ وثنٍ» (3)ولكنْ من سجدَ لله سجدةً قد لا ينتكسُ، وكيف ينتكس وقد ورد تكريمُ الله له في النارِ فيأمرُها ألاَّ تَمَسَّ مواضعَ السجودِ كما ثبتَ في الحديث (4) والله أعلم.
٢) الصنفُ الثاني: وهم أهلُ اليمينِ يَمشون على أرجلِهم.
٣) الصنفُ الثالث: وهم فئةُ الرُّكبان لا يمشون بل يُحمَلون على النجائبِ وهي نُوقُ الجنةِ البيضُ عليها رِحالُ الذهبِ.
إننا لنلمسُ مثلَ هذه المفاضلةِ بين الناسِ في الدنيا {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: ٢١]. ففي الدنيا نجد الفئةَ المميَّزةَ هي فئةُ الأغنياءِ وأصحابِ المنصبِ والجاهِ فلهم عالَمٌ خاصّ.. لا يتساوَوْن فيه مع بقيةِ البشرِ؛ ففي المطاراتِ نجدُ لهم حجوزاتٍ خاصةً وغرفَ استقبالٍ تليقُ بأمثالِهم، وفي الفنادقِ لهم أجنحةٌ مميَّزةٌ، وفي البنوكِ ترى الناسَ يزدحمون ويقفون صفوفاً لقضاء مصالحِهم.. أما هؤلاء فلهم غُرفٌ مكيَّفةٌ تُدارُ عليهم أصنافُ الحلوى والقهوةِ ريثما تُقضى شئونُهم.. يشيرُ إليهم الناسُ بالبَنانِ فهم الفئة الذين حازوا قصَبَ السَّبْقِ وتبوؤوا المكانةَ الرفيعةَ.. إننا نسمعُ الناسَ يقولون عنهم (هؤلاء أناسٌ قد وصلوا.. ) ولا أدري لعمرُ اللهِ وصلوا إلى أين.. ؟ فقد يكون أحدُهم قد وصلَ إلى ما هو فيه من غنىً بالربا وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، وقد يكون وصل إلى الجاهِ والمنصبِ بالحيلةِ والمكرِ، ولكن على أية حالٍ فهذا الواصلُ هو كذلك في نظر الناسِ القاصرِ.
أما هؤلاء فإنَّهم قد وصلوا بتكريم ربِّهم عز وجل وتسجيلِهم عنده في لوائحِ الشرف، قوم قد وصلوا ذُرَى المعالي، طابت سجاياهم، واستقامت خلائقهم، فتأتي إلى قبورِهم النوقُ البيضُ عليها رِحالُ الذهبِ فتستقبلُهم فيقومون من قبورِهم في سكينة وطمأنينة لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزنوا ينفُضون الترابَ عن أنفسِهم يقولون (الحمدُ للهِ الذي أذهبَ عنَّا الحزَنَ) هؤلاء هم المقرَّبون.. السابقون بالخيراتِ.. لطالما سهِروا في طاعةِ ربِّهم والناسُ نائمون.. ولطالما وقفوا يتهجَّدون في جُنْحِ الليالي والناسُ في ملذَّاتِهم سادرون.. كان أحدُ السلفِ يُطيل قيامَ الليل وكانت ابنتُه الصغيرةُ تراه يفعلُ ذلك فتُشفق عليه فسألتْه ذاتَ مرةٍ: يا أبَتِ أراك تُطيلُ قيامَ الليلِ، لقد أتعبتَ نفسَك، فقال لها: يا ابنتي راحتَها أريدُ.. فليهنأوا الآن ولينعموا بالراحةِ.. والتميُّزِ والمكانةِ الرفيعة.
قال ﷺ في بيان الأصناف الثلاثة: «يُحشرُ الناسُ يوم القيامةِ ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ مُشاةٌ، وصنفٌ رُكبانٌ، وصنفٌ على وجوهِهم». فقالوا: يا رسولَ الله وكيف يَمشون على وجوهِهم قال: «إنَّ الذي أمشاهم على أرجلِهم قادرٌ على أن يُمشيَهم على وجوهِهم، أمَا إنَّهم يتَّقون بوجوهِهم كلَّ حدبٍ وشوكٍ» (5).
(١) قال رسول الله ﷺ «أول من تنشق عنه الأرض أنا ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فتنشق عنهم فأبعث بينهم» رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج ٣/ ص ٧٢ وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي رواية (أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبوبكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين) ضعفه الأرناؤوط في صحيح ابن حبان برقم ٦٨٩٩.
(2) انظر تفسير السعدي ج ١/ ص ٥١٣.
(3) مسند الإمام أحمد، وقد ذكره الألباني بلفظ «مدمن الخمر كعابد وثن» وصححه في صحيح الجامع.
(4) انظر الحديث في صحيح ابن ماجة للألباني ورقمه ٥١. وانظر فتح الباري ج ١١ ص ٣٤٠ باب من جاهد نفسه في طاعة الله.
(5) رواه أحمد وقال الأرناؤوط حديث حسن ورقمه ٨٦٣٢.
__________________________________________________
الكاتب: إيمان بنت عبد اللطيف كردي.
Source link