ما إن وطئت أقدام الاحتلال الفرنسي أرض فاس، حتى سارعت أسرة عبد الله ݣنون إلى توديعها، فرارا بدينهم، وتعبيرا عن رفضهم الانصياع للإدارة الفرنسية.
ما إن وطئت أقدام الاحتلال الفرنسي أرض فاس، حتى سارعت أسرة عبد الله ݣنون إلى توديعها، فرارا بدينهم، وتعبيرا عن رفضهم الانصياع للإدارة الفرنسية.
كانت الوجهة أرض الشام، غير أن المشيئة الإلهية ألقت برحالهم على أرض طنجة. وهناك سيكون نشاط عبد الله ݣنون العلمي والفكري نواة للتوعية بخطر السيطرة الأجنبية، والإسهام بإعداد الشعب المغربي ليتحرر من رواسب الأمية الفكرية، والبدع والضلالات التي تحجب عنه مكامن قوته وحيويته وانتمائه.
تكشف مؤلفات العلّامة المغربي التي ناهزت المئة، عن فكر واع بالستار الكثيف الذي يسعى النفوذ الأجنبي لإرخائه بين المشرق والمغرب، وتكسير عوامل الوحدة والهوية والانتماء الأصيل للأمة الإسلامية. لذا كان قلمه السيال يمزج بين العلم والسياسة، ويؤسس مشروعا فكريا قائما على ربط المغرب بالمشرق عبر ثلاثة مداخل:
-التمكين للغة العربية وآدابها.
-الإسهام في إحياء التراث وكشف ذخائره.
-التعريف برموز العطاء الفكري والأدبي بالمغرب.
ويمكن اعتبار كتابه (إسلام رائد) بمثابة دليل للحائرين أمام هذه الهجمة الشرسة على الإسلام، في الوقت الذي تُفصح فيه شعوب العالم عن عمق شعورها الديني، عبر كم هائل من التظاهرات والندوات، والإنتاجات الثقافية والفنية بشتى أنواعها.
شهدت الفترة الاستعمارية رواج مذاهب وإيديولوجيات جرى تقديمها كبديل للسياسة الإسلامية. وتضافرت عوامل عدة لإرخاء ستار من الجهل بحقيقة الإسلام كنظام ومنهاج كامل للحياة. وبينما كانت قوى التحرر تسطر ملاحم المقاومة ضد المحتل الأجنبي، وإجلائه من أراضيها، حرصت ترسانته الثقافية على غرس بذور سامة، تشكك في الدين، وتُواصل حربا لا هوادة فيها على قيمه ومبادئه وتشريعاته؛ رغم أن التحولات التي حدثت لاحقا عززت من مقامه في النفوس. وهنا يستوقفنا المؤلف أمام حقيقة أن المعركة ليست ضد الدين:
“إنما هي معركة طائفة من الناس استولوا على مقدرات بلادهم، وأخذوا زمام السلطة فيها إما باستعمال القوة والعنف، أو بطريق المكر والخداع، فاستطاعوا أن ينفذوا مخططاتهم في السياسة والاقتصاد، وأن ينشروا أفكارهم التي تهدم دعائم المجتمع المتدين، لأنه لا يتلاقى ومخططاتهم المبنية على فلسفة مادية إلحادية.”
يُفنّد المؤلف دعوى هامشية الدين في الحياة المعاصرة، وتراجعه كعامل سياسي في بناء القوميات والشعوب. وهي الدعوى التي يُكذّبها تفجر الصراع في عدد من مناطق العالم الإسلامي، كفلسطين وجنوب السودان والصومال وقبرص، حيث يكشف العدوان عن تعصب واضح ضد الإسلام تحديدا، قبل أن يكون حرمانا للشعوب من تقرير مصيرها.
في المقابل ترتفع أصوات غربية نزيهة وشجاعة، لتُعرّف بالإسلام كدين يكفل التعايش السلمي، وكتشريع ينتفي فيه النزاع الطبقي والتمييز العنصري. تشهد بذلك حضارته التي احتضنت الأبيض والأسود، وكفلت للجميع حريات عامة، حتى صار بعض كبار موظفي الدولة من غير المسلمين.
دعوى أخرى يرّدها المؤلف وهي المتعلقة بموقف الإسلام من القوميات، حيث يؤكد أن غايته هي بناء المجتمع البشري على أساس من العدالة والحق، دون مساس بالشخصية المميزة للشعوب وكيانها المستقل. وإذا كان الوعي القومي قد تغلغل في نفوس الأفراد والجماعات منذ القرن الثامن عشر، رغم ما تسبب فيه لاحقا من مآس وحروب، إلا أنه لا يتعارض مع المقاصد النبيلة للإسلام التي لخصها القرآن الكريم في كلمة واحدة توزن بالذهب، وهي قوله تعالى في سورة الحجرات: {لتعارفوا} – آية13. وأما مبدأ التفاضل الذي أقرّه فهو التقوى، أي تلك القيمة الخلقية التي لا شأن لها بجنس أو لون.
لم تحقق المذاهب المستوردة ما كانت تطمح إليه الشعوب الإسلامية من ازدهار وتقدم، لأنها لم تمتزج بطبيعتها ولم تندمج مع شعورها الديني. فالديموقراطية على سبيل المثال ابتدأ تطبيقها في دولة الخلافة العثمانية منذ 1908، لكنها لم تمنع الدولة من التفكك، إذ تتابعت الثورات على الخليفة عبد الحميد الثاني، وتحول نظام الحكم إلى ديكتاتورية عسكرية على يد أتاتورك.
إن الديموقراطية خدعة سياسية، يقول المؤلف، والسبب في ذلك يرجع إلى الضعف الذي تنطوي عليه مقولاتها. فاعتبار الشعب مصدرا للسلطات بجميع أنواعها، يتعارض مع ما يقرره الشرع الإسلامي بأن الحكم لله، وأنه المشرّع في جميع الأحوال.
وأما الادعاء بأن الحكم للشعب فهو لا يعني الإجماع الشعبي، وإنما يُقصد به حكم الأغلبية؛ وهي بالمناسبة أغلبية نسبية يحددها التنافس بين التنظيمات الحزبية. بينما يرجح الإسلام خيار الأكثرية النوعية، كما في الإجماع الذي يتحقق باتفاق علماء الأمة ومجتهدي العصر. وشتان بين اتفاق العلماء واتفاق الجهلاء، لاسيما في أمور الحكم والسياسة!
أدى فشل التجربة الديموقراطية إلى تبني خيار الاشتراكية، تحت ضغط الأنظمة الديكتاتورية؛ خاصة بعد الدعاية الواسعة لمظاهر التقدم العلمي الذي أحرزه الاتحاد السوفياتي. إلا أن الواقع كشف عن رغبة عارمة في السيطرة على الشعوب، وتوجيهها نحو الخط الذي رسمه قادتها دون استشارتها، فكان من البديهي أن يحدث تراجع على كل الأصعدة، ورفض حاولت القيادات الالتفاف عليه بالبحث عن جذور الاشتراكية في تعاليم الإسلام ومبادئه.
وأما الرأسمالية التي خاطبت أحلام الشعوب الإسلامية وآمالها بالازدهار، فإن مقولاتها عن الحرية والملكية الفردية لم تكن سوى تهيئة للدفع بالشعوب لقبول نظام اقتصادي يقوم على معاملات مخالفة للشريعة، منها الاحتكار والتعامل بالربا، واستغلال جهود البسطاء من خلال تدويرهم في ماكينة إنتاج، تسهم في تكديس الثورات في يد فئة قليلة، وبالتالي تعميق الفوارق الاجتماعية. بينما يحرص الإسلام على التدخل بصفة قانونية ومنتظمة لصالح الفقراء.
لم تسلم الأمة من تسلل مذاهب فلسفية تهز قناعات الشباب المسلم وتهدد انتماءه. وأخطرها برأي المؤلف هي الوجودية، خاصة التيار الذي يتزعمه جان بول سارتر من حيث مزجه للوجودية بالإلحاد، ونشره للتشاؤم والنزعة العدمية، وتمزيق الكيان الإنساني من الداخل.
إن رفض الإسلام لهذه المذاهب لا يعني أنه دين منغلق على نفسه، وإنما هو دين ومنهج حياة منفتح على الآخر، شريطة عدم المساس بمقوماته الذاتية، وبعقيدته وشريعته التي ارتضاها الله تعالى للعالمين. إن قوته نابعة من أصالته التي أقرّ بها أهل الكتاب السابقون، وهي الأصالة التي استهدفت تصحيح الوضع الديني السائد قبله، وتخليص الناس من تبعات التحريف والكذب والبهتان الذي قيّد حرياتهم وآمالهم.
إلى جانب التسلط على مقدرات الأمة ونهب خيراتها وسلب كرامتها، سعى المحتل الأجنبي لفرض عالم أفكاره ومذاهبه العقلية، والترويج لها بهدف سلخ الأمة عن دينها وهويتها وانتمائها الذي لا تحده الجغرافيا. وقد عاين المفكر المغربي عبد الله كنون شراسة هذا المخطط، وتعرّض في سبيل التحذير منه للأذى والمضايقات، فكان إلى جانب ثلة من علماء الأمة ومثقفيها آنذاك، يستشعر مسؤوليته تجاه أي ثغرة يمكن للمحتل أن ينفذ منها ليهز ثوابت الأمة، فيبادر إلى ردمها. ساعده على ذلك شخصيته الفريدة التي جمعت بين الانتماء لسلفية متصلة باليقظة الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر، وبين الانفتاح على الفكر الحديث ومذاهبه التي لا تتعارض مع جوهر الدين وسماحته، فكان رحمه الله أنموذجا للاعتزاز بقيم الإسلام والعروبة مع التمسك بالانفتاح الرشيد على آفاق المعرفة الإنسانية.
ما يحز في نفس المؤلف هو أن الإسلام بحاجة إلى تأكيد ريادته مجددا في بلاد المسلمين، والتصدي للعوامل الذاتية التي تجعل من انتشار هذه المذاهب نتيجة لا سببا. يقول في مقدمة كتابه، مُبديا أسفه على وضع لا زلنا نتقلب فيه حتى اليوم:
” نلقي بأبنائنا بين أيدي معلمين جهلة بأبسط أحكام الدين، أو من غير ملتنا، أو ملاحدة متمردين على خالقهم ورازقهم، ونشتكي من سوء تربيتهم وضعف إيمانهم.
ونترك جماهيرنا عرضة للأهواء وفريسة للأدعياء، ونتعجب من انحرافهم وغلبة الشر عليهم.
ونولّي أمورنا أناسا تشبعوا بثقافة الغرب وملأ الإعجاب بحضارته المادية نفوسهم وقلوبهم، ونتساءل من أين أتانا الفساد، وغمرت مجتمعاتنا عوامل الانحلال والإلحاد..”
Source link